بقلم: شريف رفعت
المشهد الأول:
الأسكندرية بالقرب من منطقة وسط البلد، يوم الجمعة ١٤ يناير 2011 فيما عرف بجمعة الغضب أثناء الثورة المصرية، الساعة الثالثة بعد الظهر، عشرات الآلاف تدفقوا إلى الشوارع بعد صلاة الجمعة، هدفهم واحد واضح، إسقاط حكومة حسني مبارك، هناك قذف بالحجارة من المتظاهرين و إطلاق قنابل مسيلة للدموع و رصاص حي من جانب الشرطة، أسير مع المتظاهرين، ألمس بل أحتضن نبض الشارع المتقد، أشعر بالفخر لأني جزأ من الحدث، بالتأكيد هذا هو أهم عمل قمت به في سنواتي الأخيرة.
أحاول تجنب الغازات المسيلة للدموع، أنظر لوجوه المتظاهرين أغلبهم من الشباب المتحمس، أشعر أن مصر بخير، المشاعر في ذروتها، المشهد يتسم بالجنون عندما يرى المتظاهرون عربة إطفاء حريق تتجه نحو تجمع الشرطة، يستنتجون أن الشرطة ستستخدمها لإطلاق خراطيم الماء المضغوط عليهم لتفريقهم، يلتفون حول العربة يلقون الحجارة على نافذتها الأمامية و على سائقها الذي ترك العربة و هرب ، يصعد أحد شباب المتظاهرين لمقعد القيادة و يقود سيارة الإطفاء وسط هتاف و تشجيع الجموع.
الأحداث تتتابع بسرعة، جنون جميل حالم يحتويني فأنا واحد من الثوار أساهم في الاعتراض على حكم فاسد فاشل في سبيل حياة أفضل. وسط هذه الأحداث و المشاعر المتقدة ألمحهما، عجوزان مظهرهما يدل على أنهما في منتصف السبعينات، وحدهما، يجلسان على مقهى وسط المظاهرات و الغازات و الهتاف و الجنون و الغضب، يجلسان يلعبان النرد بمنتهى الهدوء و الانسجام و الانهماك، لا يباليان إطلاقا بالثورة التي تحيط بهما، صدمت لمنظرهما، اقتربت منهما، أنظارهما على طاولة النرد التي بينهما، أحدهما يعلق بهدوء على حركة أتى بها الآخر و الذي يستمع له بتركيز و يوميء برأسه موافقا، لم يرفعا أعينهما عن الطاولة و لم يفكرا إطلاقا في متابعة المشهد الذي يحيط بهما أو التعليق عليه أو حتى رفع أنظارهما عن رقعة النرد التي استغرقتهما تماما.
المشهد الثاني:
أتجول في مواقع الإنترنت، التاريخ عام 2012، البلد في حالة غليان و نقاش مستمر و سجال، المجلس العسكري يحكم البلد، هناك مظاهرات و مصادمات بين المتظاهرين من جهة و الشرطة و الجيش من جهة أخرى فيما عرف بأحداث ماسبيرو و محمد محمود و مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية، أثناء تجوالي في الإنترنت أرى فيديو يوتيوب لأغنية يصاحبها رقص، هناك راقصة مشهورة و مطربة و مطرب يشاركنها الرقص مع الغناء، كلمات الأغنية تقول “بيقول لي هاتي بوسة، يا مصيبتي و يادي الحوسة، الواد فاكرها كوسة، أديله و لا لأ؟”، الرقص و الحركات و الكلمات تدفعني للإبتسام رغم أن الكلمات مبتذلة بعض الشيء. الغريب أن الفيديو كان قد مر على عرضه أسبوع واحد خلاله كان هناك إثنان و نصف مليون مشاهد، بمعدل أكثر من 300 ألف مشاهدة في اليوم.
أستعجب و أتساءل هل هؤلاء المشاهدون عندهم وقت و رغبة في مشاهدة و الاستمتاع لمثل هذا التسجيل وسط الأحداث الجسام التي تمر بها البلد؟ مظاهرات، ضحايا، نوايا سيئة تحيط بالبلد، المسئولون عن البلد يتخبطون، النقاش عن مصير البلد في الجرائد و التلفاز تقريبا أربعة و عشرين ساعة يوميا، و وسط كل ذلك هناك مئات الآلاف ممن يتركون كل هذا و يشاهدون “يا مصيبتي و يادي الحوسة”.
المشهد الثالث:
أحد طائرات الركاب المصرية تتعرض للخطف، الخاطف يدعي أنه يرتدي حزام ناسف و يوجه الطائرة إلى مطار بقبرص، يهدد بأنه سينسف الطائرة بمن فيها إذا لم تـُلـَبـَى طلباته، هناك مفاوضات و مناقشات بين المختطف و السُلـْطات المصرية، الغموض يحيط بملابسات الاختطاف، هل الدافع سياسي أم شخصي؟ إشاعات أن المختطف يطلب إطلاق سراح معتقلين سياسيين من السجون المصرية، إشاعات أخرى أنه يود الحديث مع مطلقته التي انفصلت عنه منذ سنوات، ينتهي الموقف بسلام عندما يسلم المختطف نفسه للسلطات، قبل ذلك و أثناء اللحظات المتوترة التي مرت بالجميع يطلب أحد الركاب من المختطف أن يأخذ معه صورة “سِلـْفي”، يستجيب المختطف و تظهر الصورة في وسائل الإعلام للرجلين معا كأنهما صديقان حميمان.
المشهد الرابع:
أثناء عطلتي الأخيرة في مدينتي الأسكندرية أسير في شارع سعد زغلول أحد أكبر شوارع المدينة، الشارع في حالة يرثى لها، عدد مهول من السيارات يزاحمها المارة في الطريق، المارة في الطريق لأن الرصيف احتله باعة يفرشون بضائعهم عليه و يرفعون أصواتهم القبيحة بالنداء على البضائع، نـُقـَر الطريق تعترض مسير السيارات و مثلها على الرصيف لمن تسول له نفسه السير عليه، القمامة في كل مكان، الضجيج مخيف و سخيف، جو عام من التسيب و اللا مبالاة يحتوي الشارع الذي كان مفخرة الأسكندرية في عهود مضت، المشاة بالألاف رغم ان الساعة الحادية عشرة مساءا و اليوم التالي يوم عمل ـ أو المفروض أن يكون يوم عمل ـ
أتأمل وجوه الناس في الشارع، الغريب أن هناك ملامح سرور و حبور و ابتسامات على هذه الوجوه، أحسن وصف لحالة الناس هو الكلمة العامية المصرية “مزأططة”، الناس جميعهم “مزأططين”، حتى المتسول على جانب الطريق “مزأطط”، شرطي المرور في أول الشارع ينظم المرور، أو المفروض أنه ينظم المرور يؤدي عمله باستهانة و لا مبالاة و هو أيضا “مزأطط”. رغم الزحام و القمامة و الشوارع و الأرصفة التي في حالة يرثى لها كل الناس “مزأططة”.
يهيء لي أني أنا الوحيد المعتوه الذي يحمل الهم و ينظر للسلبيات التي حوله بعين ناقدة.
وسط هذه “الزأططة” و الفوضى أشاهد منظرا غريبا، رجل يتبع ابنته البالغة من العمر حوالي سبع سنوات و هي تتعلم قيادة دراجتها، بينما الأب ممسك بمؤخرة الدراجة حتى لا تقع و ينهال بالتعليمات على ابنته، يفعل هذا أسفل الرصيف مزاحما السيارات و المشاة و متجنبا الحفر و العوائق، المهم أن الرجل و ابنته أيضا “مزأططين”، ألم يجد هذا الأبله مكان آخر في كل أنحاء هذه المدينة لتعليم ابنته قيادة دراجتها؟
النتيجة:
1ـ المصريون عندهم مقدرة غريبة على الفصل بين ما هو شأن عام قد يكون في منتهى الأهمية و بين حياتهم الشخصية اليومية التي هي في الغالب في منتهى الهيافة و ينغمسون فيها تماما. فأثناء المظاهرات و الاضطرابات السياسية و اختطاف الطائرات و أحوال الطرقات التي يرثى لها ترى المصريون يلعبون الطاولة و يسمعون الفيديوهات الهلس و يأخذون “السِلـْفي” و يتعلمون ركوب الدراجات و هم “مزأططين”.
هذه الظاهرة يجب دراستها بواسطة علماء النفس، و إما تقويمها إذا كانت سلبية أو الاستفادة منها لمصلحة البلد لو كانت إيجابية.
2ـ العجوزان في المشهد الأول كانا في منتهى الحكمة و بعد النظر.