بقلم: محمد منسي قنديل
دخلت «كازينو القمار» للمرة الأولى في حياتي في العاصمة الرومانية «بوخارست»، فقد كان محرما علينا دخولها في مصر، ومعرفتي بها، مثل الكثيرين غيري، لا تتجاوز أفلام السينما، لذا كنت اشعر بالإثارة وأنا أتأمل أبهائه الفاخرة ، وكان يعد الإنجاز الأسرع الذي شهدته رومانيا بعد سقوط «شاوشيسكو» ، يتجول بين الموائد ورثة النظام الشيوعي من الاثرياء الجدد ورؤساء المافيا والكثير من الإسرائيليين، يطيرون إلى الكازينو خصيصا من أجل المقامرة، معظم الحاضرين يقامرون وقوفا، يدفعون بأكوام من «الفيش» المختلف القيمة واللون، كانت المبالغ التي تتحرك أمامي هائلة، وبعد كل دورة خاسرة من عجلة «الروليت» تهبط «الفيش» في فجوة المنضدة الخضراء دون رجعة، ولكن الزبائن لا يتراجعون، يدفعون المزيد من النقود ويجلبون أعمدة جديدة من الفيش، لم استطع، كواحد قضي معظم أيام عمره في الفقر، أن احتمل مشهد هذه الكمية من النقود وهي تهدر هكذا، ببساطة وبلا انفعال، غادرت الكازينو هاربا إلى الشوارع المظلمة، لعل الهواء البارد يمسح من ذهني مشهد الدولارات الضائعة.
لم يكن يوجد إلا المحلات المغلقة والقليل من المارة، والمدينة مستغرقة في كآبتها القديمة، لا مكان فيها للسهر غير هذا الكازينو المفزع وأندية التعري، ولكني لمحت «كشك» خشبي صغير مازال ساهرا، مرسوم عليه علامة «الهوت دوجز»، لونها ذهبي وتتصاعد منها ابخرة شهية، علامة جاذبة لجائع مقهور مثلي، كانت البائعة صبية يافعة فاتنة الجمال، أجدر بها أن تكون موديلا أو نجمة سينمائية بدلا من الوقوف أمام هذا السطح الساخن الذي تقلي عليه اصابع السحق، في هذا الليل وتلك الوحدة كان يجب ان نتكلم معا، نحاول أن نتعرف على بعضنا ، دون لغة مشتركة، لا انجليزية ولا فرنسية وبالطبع لا عربية، استخدمنا كل انواع الاشارة والجمل المبتورة، دون أمل، ودون أن يكون هناك مجال للتلامس إلا بأطراف الأصابع، التهمت «السندوتش» الساخن في صمت ، ثم دخلنا في جولة ثانية من الحوار المتعثر، احضرت هي ورقة وقلما وتداخلت أصابعنا ونحن نخط لبعض حروفا غامضة، دون جدوى، بالكاد عرفت اسمها ونطقت اسمي بطريقة معوجة، ظللنا واقفين امام بعضنا ونحن نلهث من فرط الجهد وخيبة الامل، بدا لي أن جمالها قريب المنال لحد لا يصدق، لولا ذلك الحاجز الذي لم نتمكن من اختراقه.
أنه حاجز اللغة الذي قسم الدنيا إلى قوميات وعرقيات ،متفرقة دائما متناحرة احيانا، كان لسان كل واحد منا مثقل بلغته القديمة، تفرق بيننا خمسة آلاف لغة، ورغم ان علماء اللغة يصرون على ان اللغات كلها قد نبعت من «جين» واحد، إلا أن هوة عدم التفاهم بيننا ظلت تتسع، وربما كان هذا نتيجة طبيعية للصراع الذي لم يهدأ بين القبائل والأقوام المختلفين، فالسلام التام لم يسد اركان المعمورة طوال تاريخها إلا لمائة وخمسون عاما فقط، أو ربما كان هذا دليلا على قدرة الأبداع البشري وتنوعه، وفي رأيي أن المرأة هي التي أهدتنا اللغة، فبينما كان الرجل ملزم بالصمت، يخرج هو ورفاقه للصيد ويظلون رابضين لساعات طويلة دون صوت حتى لا تفلت منهم الحيوانات، تجلس النساء داخل الكهوف، يغزلن الصوف ويطهين الطعام دون أن يتوقفن عن الثرثرة واستنباط الكلمات، وعندما يلدن تودع كل أم لطفلها سر الكلمات فتنتقل وديعتها من جيل لآخر، أي أن تكاثر اللغات يرتبط بقدرة المرأة على التكاثر.
وقد استغرق بناء المجتمعات البشرية حوالي مائة وعشرين ألف عام، ومثل اكتشاف اللغة حدثا جللا في كل المجتمعات القديمة، فقام المصريون بحفر الهيروغليفية على جدران الصخر، ونقش الأشوريين والبابليين حروفهم المسمارية على ألواح الطين، واخترع الصينيون الورق من أجلها ، ودونها عرب الصحراء على رق الغزال واهل الغابة على لحاء الشجر، واتسعت رقعة العالم وتكاثرت الألسنة، وتحولت اللغة إلى أداة من أدوات الغزو، فقد أدركت المجموعات المتسلطة أنها لن تفرض أرادتها إلا بعد ان تفرض لسانها، وقد نجحت بعض اللغات في فرض نفسها بالفعل وبعضها أنقرض فور زوال السبب القهري، الإسبانية مازالت باقية بين شعوب أمريكا اللاتينية، بل أن بعض كتابها ينتجون نصوصا افضل من الإسبان أنفسهم، وبقيت اللغة العربية لأنها ارتبطت بالدين، واعتبرتها الأقوام التي فتحها الإسلام بمثابة لغة للخلاص والتطهر، وتواصلت الإنجليزية لأنها لغة ذكية، استطاعت أن تتعايش مع اللغات المحلية الأخرى، وتتلون مع مختلف الألسنة، واحس العالم بحاجته إليها حين اصبحت لغة المال والتجارة، وقدمت الإنجليزية للهند أكبر خدمة في تاريخها، فبفضلها استطاع سكان شبه القارة ان يتفاهموا ويتوحدوا في لغة واحدة بعد أن كانت تفصل بينهم 21 لغة مختلفة، وانحطت مكانة الفرنسية بعد أن هجرتها الطبقة الارستقراطية والدبلوماسية، واستقلت عنها دول أفريقيا، رغم أن بعض الجزائريين مازالوا يعتبرونها غنيمة حرب، وقد شاهدت في مقاطعة «كبيك» في كندا جهودهم اليائسة وهم يحاولون الحفاظ على الفرنسية، يبذلون المنح الدراسية ويدفعون الأموال لمن يقبل على دراستها، ويشجعون نشر الكتب وانتاج الأفلام الناطقة بها، ولكنهم يخوضون معركة خاسرة، فهم أقلية في كندا، واقلية في أمريكا الشمالية وفي العالم كله، وقد تراجعت اليابانية من جنوب شرق آسيا مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وزوال الاحتلال، وكذلك تبددت الروسية من شرق أوربا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ولا تكف اللغات الضعيفة والمحدودة عن الموت، في كل عام تموت لغة أو لغتين، وفي غضون عقد من الزمن لن توجد إلا اللغات الكبرى، وقد بذلت الأمم المتحدة جهدا مستميتا من أجل خلق لغة عالمية، فعندما تسود هذه اللغة سيتكون مجتمع إنساني موحد، ، وتبنت المنظمة لغة «الاسبرينتو» ، وهي لغة مصطنعة، اخترعها العالم البولندي «لودفيك زمنهوف» في أواخر القرن التاسع عشر، في محاولة لاكتشاف لغة سهلة التعلم، تصلح لكل الألسنة، ولكن هذه اللغة لم تنتشر إلا وسط دائرة ضيقة من هواة اللغات الغريبة، رغم أن العالم كان متأهبا للغة عالمية واحدة كما لم يحدث من قبل.
لقد تحقق ذلك بشكل ما، وقد كنت حاضرا وشاهدا، فعلى مدى اربعة عشر عاما من الترحال والسفر عبر الحدود قدر لي أن اشاهد اروع الأحداث البشرية، رأيت العالم وهو يفك عقدة لسانه، ينطق الإنجليزية ببطء، يثغو ويثأثأ كطفل، ثم يكون جملا مضحكة كلماتها محرفة ولكنه يدعمها بلغة الجسد الإشارة، تظهر أجيال جديدة، يولدون ولديهم هبة طبيعية في التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة، فيتواصلون ويتفاهمون ويعشقون عبر شبكات التواصل الاجتماعي ، بل ويجهزون أيضا للثورات، وزاد من أنتشار الانجليزية زيادة السطوة الأمريكية بعد انهيار السوفييت ، فمن لحظتها لم تكف الانجليزية عن الزحف، تغلغلت حتى بين أشد الأقوام تعصبا للغاتهم كالفرنسيين والألمان، ولم تعد دون حاجة لاختراع لغة جديدة، ومهما يمكن أن يقال عن هذه اللغة وتاريخها الاستعماري فقد وهبتنا جميعا القدرة على التفاهم والتحدث سويا، في عام 2002 كنت في ميدان «الجراند بالاس» في قلب بروكسل، ورأيت شبابا وشيوخا من كل أجناس العالم، بيض وصفر وسود، يتحدثون سويا كأنهم ولدوا في بيت واحد، تختلط كلمات صفقات الأعمال مع عبارات الحب وربما همسات التآمر، وفي الخلفية كانت تتعالى أنغام السمفونية الخامسة لتشيكوفسكي، المسماة «باثتيك» أي العاطفية، وتمنيت لحظتها لو يعود بي الزمان إلى شوارع بوخارست لأقف أمام فتاة الكشك الصغيرة وأتفاهم معها ربما نصل لشيء ما.






























