بقلم: محمد منسي قنديل
لا ادري لماذا أتذكر عبد الناصر هذه الأيام، ربما لأنه من الزعماء القلائل الذين اثروا فينا كثيرا، وظلت ذكراه تلاحقنا حتى بعد أن رحل، لم يكن بحاجة التزوير الانتخابات رغم ان اجهزته كانت تزورها، كان يفوز بنسبة هائلة 99% رغم أنه كان المرشح الأوحد، مازال هذا الأمر ساريا مع إضافة بعض المرشحين الكومبارس، ورثنا منه كل الأخطاء، أما الإنجازات فقد قضينا عليها، عشنا معه اجمل أوهام النصر، وذقنا معه مرارة الهزيمة.
رأيت عبد الناصر في حياتي مرتين، كنت صغيرا في المرة الأولى عندما جاء إلى مدينتنا “المحلة الكبرى” للمرة الأولى والأخيرة، كنت طفلا صغيرا أقف وسط آلاف من المصريين المشدوهين، المتشوقين لرؤيته، ضمن الحناجر التي تهتف دون وعي، كانت المناسبة هي الاحتفال بعيد العمال، وكانت مدينتا العجوز قد تزينت بقدر استطاعتها وامتلأت الشوارع باللافتات وأشكال التروس المصنوعة من الخشب، كنا وقتها نعيش في الأناشيد أكثر مما نعيش في الواقع، احتشدنا على الأرصفة منذ الصباح المبكر، ووزعت علينا المدرسة زيا مخصوصا بالمجان حتى لا نبدو امامه بثيابنا الفقيرة، وكأنه كان يرانا حقا؟!!، اصبحت الشمس حامية دون أن نتحرك من اماكننا، تأخر موكبه فلم نتذمر، كنا نعرف أنه سيقابلنا تحت نفس الشمس وان ابتسامته ستزداد اتساعا عندما يرى حشدنا، وعندما ظهرت سيارته أخيرا، واقفا في سيارته المكشوفة، قامته عالية وكتفاه عريضتان، عمود فرعوني متوج باللوتس، يلوح بيده فنشعر جميعا بالنشوة، نهتف له في تبتل، كان في لحظة مجده، وجهه منيرا، يمضي من نصر إلى نصر كما يرددون في الإذاعة والصحف، لم نكن نعرف بالضبط نوع المعارك التي يخوضها، ولكن كنا واثقين أنه سيخرج منتصرا وهذا ما كان يهمنا، وبعد أن انتهى استقباله الحاشد أخذ أهل المدينة يعدون بسرعة إلى استاد كرة القدم، تجمعنا حوله حيث بدأ يلقي خطابه علينا لأكثر من ساعتين، وكان يردد كثيرا الكلمتين المحببتين إليه “ العزة والكرامة” ويهاجم “الرجعية والاستعمار”، كان يقف راسخا مثل شجرة من المستحيل اقتلاعها وهو يعدنا بمسيرة طويلة من الكفاح وكنا واثقين أن سوف يكملها، كانت رؤيته اشبه بحلم لم استطع أبدا أن انساه.
ولكن الأمر كان اشبه بالكابوس حين رأيته للمرة الثانية، كنت قد كبرت في السن، أعوام مرت علينا كأنها دهور طويلة ،انطفأت مشاعل الثورة واصبح طعم الأيام مرا كالعلقم، كنت في القاهرة ، في ميدان التحرير، لم تكن هناك سيارات، ورجال الشرطة ينظمون صفوف الناس وكانوا قليلين على أي حال، لا يمكن مقارنتها بالحشود التي كانت تقف في انتظاره، لم تكن هناك زينة خاصة ولا بقية من هالات المجد، وعبد الناصر يركب في سيارة مكشوفة في طريقه إلى مجلس الأمة، بجانبه يجلس شاب نحيف وعصبي في بزته العسكرية، كان هذا هو العقيد معمر القذافي في أيامه الأولى بعد أن قفز للسلطة، ولابد أن وجوده كان السبب المباشر في ركوب عبد الناصر في سيارة مكشوفة، فمنذ أن تم اغتيال كنيدي في منتصف الستينات وقد كف الرؤساء في كل انحاء العالم عن ركوب السيارات المكشوفة، واصبح الخطر في مصر مضاعفا بعد هزيمة يونيو، ولكنه تحمل المخاطرة من اجل أن يظهر هذا الزعيم الشاب أمام الجماهير، تغير الزمن حقا، ولكن ليس كالتغير الذي حدث للزعيم، كان مايزال في بداية الخمسينات من عمره ولكنه بدا طاعنا في السن لحد الكهولة، الشيب يبدو واضحا في فوديه، لم يكن يهتم بصباغة شعره مثل حسني مبارك، وكان وزنه قد زاد واصبح كرشه بارزا للأمام، بدا بالغ الضخامة بالنسبة للعقيد البلغ النحافة، وكان يرد على تحية الجماهير بملل وعدم اكتراث، وكان هم أيضا يحيونه وقلوبهم مفطورة من الحزن، ضاع الشغف وفتر الحماس ، كنا قد تلقينا أسوأ هزيمة في تاريخنا المعاصر، تقلصت خريطة مصر الواسعة التي ورثها عندما تولى الحكم، انفصل عنا السودان الذي كان عمقا استراتيجيا وأملا في توفر الغذاء ومواجهة الجوع، لم نستطع أن نبقي الرباط الذي يجمعنا بالأخوة السودانيين متواصلا، ولم نستطع أن نحافظ على غزة الفلسطينية التي كانت أمانة عندنا، واضاعنا سيناء ، خمس الوطن، بما فيها من نفط ومعادن وقبائل وتاريخ وآثار، لم يبق إلا خريطة خانقة ،اصبح الزعيم الخالد رجلا عجوزا مهزوما لا يجديه التشبث باي من أحلامه القديمة.
ما بين هاتين الرؤيتين للزعيم ضاعت سنوات عمرنا، كانت كلماته قد شكلت طفولتنا وسنوات شبابنا، وكنا الجيل الوحيد في تاريخ مصر الذي جاء للعالم محملا بأحلام عظيمة، بشغف للوحدة والحرية ورغبة في تغير العالم وإحساس بالقدرة على مواجهته دون خشية، ودون إحساس بالنقص، كل الأجيال التي ولدت بعد ذلك كانت محبطة ومهزومة، وبعضها ولدوا وهم عجائز، انطفأت احلامنا الزاهية فجأة في عام 67، اكتشفنا اننا نحن الجيل الذي تخيل أنه يواصل الصعود بينما هو يقف مشلولا في مكانه، كان وعينا غائبا، لقد كتب توفيق الحكيم بعد وفاة عبد الناصر مباشرة كتابا صغيرا بعنوان عودة الوعي، تحدث فيه بهدوء وكياسة عن بعض أخطاء الزعيم الراحل، ساعتها لم يلتفت أحد إلى مضمون الكتاب بقدر ما تركز الهجوم على شخص توفيق الحكيم نفسه، اتهموه بالجبن والنفاق ومحاولة تشويه الزعيم الخالد، لم يكن الوعي قد عاد لنا بعد، أو بالأحرى كنا لا نريد ذلك، نحن الشعب الوحيد في العالم الذي نغيب وعينا بإرادتنا، نغض البصر عن الأخطاء ونمررها ونبلعها، مرت علينا أيام السادات وحسني مبارك كما تمر الكوابيس، ظللنا بنفس درجة الشلل حتى رأينا أولادنا وهم يتحركون في يناير عام 2011، لكنهم لم يواصلوا الحركة إلى نهايتها عشنا معهم لحظة نادرة من يقظة الوعي بعد قيام الثورة ولكنها كانت قصيرة، كنا نتابع نظاما يرحل بكل اخطائه وجرائمه، ولم نتوقف طويلا عندما لم تتم محاسبته، ولم ننتبه أيضا عندما تكررت الأخطاء نفسها، وهذه هي المشكلة الأزلية التي تعاني منها مصر، مشكلة الثورات الناقصة.











