بقلم: د. حسين عبد البصير
الأهرامات المصرية هي سحر الآثار المصرية وقبلة الزوار والسائحين لمصر عبر العصور والأزمان. وسحرت الأهرامات بعظمتها وجلالها وجمالها الأخاذ الأبصار والعقول وهامت في أسرارها القلوب. وبحث الجميع عن أسباب عظمتها وتفردها. وزادت عظمة أصحابها بسبب بنائها تقديسًا وتكريمًا وتعظيمًا لهم. غير أن الفضل الأول في بناء هذه الأهرامات الساحرة المعجزة يرجع إلى عبقرية الهندسة المصرية الفريدة وعظمة المهندسين المصريين العظام. ولا يمكن لنا أن ننسى جهد وإبداع وعبقرية المهندسين المصريين القدماء العباقرة أمثال إيمحتب وحم إيونو وعنخ حاف. وفي السطور التالية، نلقي الضوء على أولئك المهندسين العظام الذين شادوا هذه الأهرامات الخالدة على وجه الزمان.
إيمحتب
المهندس العبقري إيمحتب هو أول نسل تلك السلالة المباركة من المهندسين المصريين العباقرة. لقد عاش المهندس إيمحتب المهندس العبقري في عهد الملك زوسر. وقصة حياته مدهشة. وإنجازاته تفوق الوصف. وتوضح العلاقة القوية بين ذلك الملك وذلك المهندس أهمية وجود صلات قوية تربط بين رجل الدولة ورجال بلاطه العظام. ومن الجدير بالذكر أنه ليس المهم أن يكون المرء وحده عظيمًا حتى يكون قائدًا ناجحًا فذًا يذكره التاريخ أبد الدهر، لكن المهم أن يحيط المرء نفسه بعدد من العباقرة الذين يسهرون على تحقيق أحلامه وطموحاته ويمدونه بالأفكار النيرة وينفذون خططه غير المسبوقة ويطورون الواقع متجاوزين الممكن إلى سماوات المستحيلة الرحيبة والبعيدة. وهكذا كان الحال في حالتنا هذه، حينما كتب القدر أن يعيش ذلك المهندس العبقري إيمحتب (والذي يعني اسمه «الذي يأتي في سلام») في عهد ملكنا الأسطوري الملك «زوسر» العظيم، من أوائل ملوك الأسرة الثالثة الفرعونية في عصر الدولة القديمة، أو «العصر المنفي»؛ الذي أُطلق عليه هذا الاسم بسبب اتخاذ ملوك هذا العصر من العاصمة «منف» لاحقًا («إنب حدج» في زمن الملك زوسر) مقرًا لحكمهم، أو ما يعرف بـ»عصر بناة الأهرام»؛ نظرًا لما بناه ملوك هذا العصر الذهبي العظام من أهرام ليس لها مثيل لا تشهد على التقدم الهندسي والفلكي والمعماري فحسب، بل تشهد أيضا على عظمة وعبقرية المصري القديم الذي عزف سيمفونية رائعة كي يدير منظومة العمل التي ساهمت في بناء هذه العجائب المصرية الفريدة باقتدار ما بعده اقتدار.
وإذا نظرنا إلى فترة حكم ذلك الملك زوسر أو «جسر»، والذي يعني اسمه «المقدس»، أو «نثري خت» أي «مقدس الجسد»، نجد أنه حكم مصر حوالي 21 عامًا تقريبا منذ 2667-2648 قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام. وكان هذا الملك من الملوك القلائل المهمين في تاريخ مصر الفرعونية. واستقر به المقام في العاصمة «إنب حدج»، وأراد أن يشيد أثرًا مهمًا؛ فهداه تفكيره، بمعاونة المهندس إيمحتب، إلى بناء الهرم المدرج في منطقة سقارة الأثرية (جبانة العاصمة المصرية القديمة العريقة «منف» لاحقًا)، كي يكون أول هرم يُبنى في العالم وأكبر بناء من الحجر على نطاق واسع في تاريخ البشرية.
وكان السبب في تحقيق وإنجاز ذلك البناء المعماري المعجز المهندس المعماري العبقري إيمحتب. وبدأ الملك العظيم زوسر التفكير في أن بناء أثر معماري فريد كي يكون علامة على عصره وبداية لفترة جديدة من تاريخ مصر المبكر وأن يكون رمزًا مميزًا له عبر العصور، فدعا في طلب رجل دولته المهندس المعماري النابغة إيمحتب.
وتبدأ القصة في عاصمة حكم الملك زوسر، مدينة «إنب حدج» الخالدة، حين جلس الملك زوسر في بهو قصره الفخم يفكر ليلاً، فدخل إليه قائد حرس القصر الملكي يخبره بحضور رجل الدولة المهندس المعماري العبقري إيمحتب إلى باب القصر يطلب الدخول إلى حضرة الملك العلية. فأذن له الملك بالدخول إلى حضرته الملكية. وكان إيمحتب يفكر طوال الوقت منذ أن ترك بيته في الأمر الجلل الذي حمل الملك على دعوته في هذا الوقت المتأخر من الليل خصوصًا أنه كان مع الملك طوال اليوم يتناقشان في عدد من أمور وفنون إدارة الدولة.
وما أن دخل إيمحتب إلى حضرة مولاه حتى ألقى التحية على ملكه المقدس، فأمره صاحب الجلالة بالجلوس ثم بدأ في مفاتحته في أمر بناء مقبرة لجلالته تكون معجزة ليس لها مثيل من العصور السابقة وكي يسر ويسعد بها فؤاد الملك، ويُضرب بها المثل من قبل الأجيال التالية، وتكون مثار إعجاب اللاحقين من أبناء الأمة المصرية العريقة.
وأعطى الملك لمهندسه العبقري فترة قصيرة كي يفكر ويعرض على جلالته ما توصل إليه من أفكار معمارية مدهشة تليق بعظمة الملك زوسر وبعبقرية إيمحتب الفذة. وبعد فترة قصيرة، عاد إيمحتب بفكرة بناء هرم مدرج لمولاه الملك المعظم. وكانت تلك فكرة لم يسبقه أحد إليها، واتخذ من الهرم فكرة للصعود عليه كسلم يترقى إلى عالم السماء. ففرح الملك جدًا بهذه الفكرة. وأصدر أوامره لكل مؤسسات الدولة بأن توفر للمعماري العبقري إيمحتب كل ما يحتاج إليه كي يتمكن من بناء ذلك البناء الهرمي الجديد والفريد.
وبهمة ونشاط ليس لهما مثيل، أشرف المهندس العبقري إيمحتب على بناء هرم مولاه الملك زوسر وأجزاء مجموعته الهرمية المختلفة. واستخدم المهندس العبقري إيمحتب الحجر في تلك المجموعة الهرمية المبكرة على نطاق واسع لم يستخدمه معماري مصري من قبل. كما نجح في تنفيذ عناصر العمارة النباتية واللبنية السابقة في العمارة بالحجر على نطاق واسع في مجموعة الملك زوسر، فضلاً عن تحويل مقبرة مولاه الملك زوسر المقدس من مصطبة ذات مصطبة واحدة إلى هرم مدرج متعدد الدرجات تبلغ ست درجات من الحجر. واكتملت عناصر الهرمية الخاصة بملكنا زوسر، وصارت واحدة من أروع المجموعات الهرمية من عصر الدولة القديمة بفضل عبقرية المهندس المعماري إيمحتب وتفهمه لأوامر ورغبات مولاه الملك المحبوب زوسر.
وكان من مكارم إيمحتب العديدة التي لا يمكن نسيانها أن حدث في العام الثامن من عهد الملك زوسر، أغلب الظن، أن عز فيضان نهر النيل العظيم؛ فقلت الحبوب والمحاصيل الزراعية، وشعر جميع أهل مصر بوطأة وعظم أمر المجاعة التي لحقت بالبلاد. وساد الحزن القصر الملكي. وأخذ الملك المحبوب في البحث عن أسباب ذلك الجوع الذي حل ببلاده العظيمة ذات الرخاء القديم؛ فدعا إلى حضرته الملكية، أيضًا، رجل الدولة المحبوب إيمحتب وطلب الملك منه أن يتعرف إلى منابع نهر مصر الخالد والإله الذي يتحكم فيه؛ فاختلى العبقري إيمحتب بنفسه وبأوراقه. ورجع إلى الملك زوسر وأخبره بأن مدينة إلفنتين (في مواجهة مدينة أسوان الحالية في جنوب مصر) هي التي يتجمع عندها النهر وتتحكم في مائه. فقام الملك زوسر على الفور بتقديم القرابين لآلهة وإلهات المنطقة. وحينما نام الملك زوسر في تلك الليلة العصيبة، جاء إليه الإله خنوم، سيد منطقة إلفنتين، في المنام قائلاً: «أنا خنوم الذي خلقك، أنا الذي أؤيدك، أنا الذي خلق الأرض، وأعطيت الأحجار، فبنى بها الناس المعابد…، أنا نون العظيم (المحيط الأزلي)، أنا الفيضان….». ولما استيقظ الملك من نومه، أدرك عظمة وأهمية منطقة إلفنتين ورب أربابها المعبود الخالق، الرب خنوم؛ فأمر الملك بتخصيص عدد كبير من أوقاف وخيرات المنطقة للإله خنوم ومعبده وكهنته. وأصدر الملك أمرًا ملكيًا يخاطب فيه المعبود خنوم بحدود الأوقاف الملكية التي رصدها الملك لإلهه المبجل الرب خنوم.
ومن أفضال إيمحتب على الديانة الشمسية في عصر بناة الأهرام، أو عصر الدولة القديمة، أن ازدهرت كذلك مدينة أونو (أو «هليوبوليس» أي «مدينة الشمس» باللغة الإغريقية وهي المطرية وعين شمس في شرق القاهرة حاليًا) في عهده ملكه المقدس الملك زوسر بفضل العبقري إيمحتب الذي حمل لقب «كبير الرائيين» أي المتطلعين للسماء لرصد حركة النجوم والكواكب والأفلاك في مدينة أونو؛ وفي ذلك ما يدل على تبحر إيمحتب في علم الفلك أيضًا. وتقلد إيمحتب عدة مناصب مهمة في الدولة المصرية القديمة. وكان من بينها، مسجل الحوليات، وأمين أختام الوجه البحري، والمسؤول عن البيت العظيم أي «القصر الملكي». وكان الأول لدى الملك والتالي للملك. وحمل عددًا من الألقاب الشرفية مثل الأمير الوراثي. وكان الكاتب الملكي. وكان المسؤول عن البنائين.
وهناك قاعدة تمثال للملك زوسر مصنوعة من الحجر الجيري الملون. وترجع أهمية هذه القطعة إلى أنها تصور الملك زوسر وهو يطأ بأقدامه الأقواس التسعة التي تمثل أعداء مصر التسعة التقليدين، وأمام قدم الملك توجد ثلاثة من الطيور («رخيت») التي ترمز إلى الشعب المصري. وكان الغرض من ذلك التصوير الرمزي إظهار الملك زوسر بأنه القوي والمسيطر بداخل مصر القديمة وخارجها على البلاد المجاورة لها. أما الأهمية الثانية لهذه القطعة فترجع إلى كتابة اسم وألقاب إيمحتب جنبًا إلى جنب اسم الملك زوسر. وتعد هذه هي المرة الأولي التي يُكتب فيها اسم وألقاب شخص من عامة الشعب المصري القديم بجوار اسم الملك؛ إذ كان جميع ملوك عصر الدولة القديمة مقدسين وبمثابة الآلهة على الأرض؛ لذا لم يكن مسموحًا لأي شخص أن يضع اسمه أو ألقابه على أية قطعة ملكية إلى جوار اسم الملك المقدس.
ونظرًا لإعجابه الشديد به باعتباره مثله الأعلى والمثل الأعلى لكل المهندسين المعماريين الفراعنة، شيد المهندس المعماري الأشهر سننموت، باني معبد الدير البحري للملكة حتشبسوت، مقصورة للمهندس إيمحتب فوق المسطح العلوي لمعبد ملكته الأشهر، معبد الدير البحري بالبر الغربي لمدينة الأقصر. وكان الطبيب العظيم الذي تم تقديسه في العصور المتأخرة. وكان المصريون القدماء يفتخرون بمهارة إيمحتب التي ليس لها مثيل في الطب والأدب والكتابة والعمارة على مر العصور. وانتشرت صناعة التماثيل البرونزية المكرسة له في عصور الحضارة المصرية المتأخرة. واُعتبر المهندس إيمحتب مساويًا لرب الطب عند الإغريق الإله «إسكيلبيوس». وكان الكتبة والمثقفون في مصر القديمة يعتبرون ربهم ومثلهم الأعلى؛ لذا كانوا يتمتمون باسمه، ثم يهمون بسكب قطرات من الحبر على أوراق البردي قبل البدء في عملية الكتابة المقدسة تبركًا به وتخليدًا لذكراه العطرة وسيرته المبجلة.
ولعل خير وأهم آثار إيمحتب الإبداعية الخالدة دومًا وأبدًا هي المجموعة الهرمية الخاصة بالملك العظيم زوسر صاحب الهرم المدرج بسقارة وفاتح عصر بناة الأهرام، ذلك العصر وصل إلى قمة العمارة الهرمية في عهد الملك الأسطوري خوفو وهرمه الأكبر في الجيزة الذي يعد العجيبة الواحدة الباقية من عجائب العالم القديم، وكانت البداية مع الملك زوسر ومهندسه العبقري إيمحتب صاحب هذا المتحف المهم والفريد من نوعه. وفي النهاية، فإن التحية واجبة للملك زوسر والمهندس المعماري العظيم إيمحتب اللذين خلدا اسمهما عبر الزمن بعدد من الأعمال المميزة التي تشهد على عبقرية الإبداع وروعة الأداء بين الملك الحكيم ورجل الدولة الأمين.
حم أيونو
يعتبر المهندس العبقري حم إيونو واحدًا من أشهر المعماريين في مصر الفرعونية والعالم القديم والتاريخ. ويعني اسمه «خادم إيونو» أي «خادم مدينة إيونو» أي مدينة هليوبوليس مدينة الشمس، وهي منطقة المطرية وعين شمس في محافظة القاهرة، وذلك نظرًا لأهمية مدينة الشمس في تلك الفترة من عصر الدولة القديمة وعصر بناة الأهرام.
وكانت مشاركة حم إيونو في بناء المشروع المعماري الجبار، هرم الجيزة الأكبر، من أهم إنجازاته المعمارية في حياته العملية الطويلة التي ساهم فيها في نهضة مصر الفرعونية من الناحية المعمارية.
ومن الجدير بالذكر أن حم إيونو، كمشرف على الأعمال الملكية في عهد الملك خوفو العظيم، صاحب الهرم الأكبر، قد ساهم في بدايات بناء الهرم الأكبر، غير أن بناء الهرم قد تم على أيدي المهندس المعماري المعروف عنخ حاف الذي كان أيضًا المهندس المعماري للهرم الثاني بالجيزة الخاص بالملك خفرع، وذلك وفقًا لبرديات وادي الجرف، الذي الاكتشاف الأثري الذي اعتبره أعظم اكتشاف أثري في القرن الحادي والعشرين.
وتوجد مقبرة حم إيونو في جبانة الجيزة وهي من أكبر وأشهر وأهم وأضخم المقابر الموجودة في هذه الجبانة. وحم إيونو هو واحد من أفراد العائلة المالكة، وهو ابن الأمير نفر ماعت وزوجته «أتات» التي توجد مقبرتهما في منطقة ميدوم في بني سويف.
ويعد تمثال حم إيونو الموجود حاليًا في متحف هلدسايهم في ألمانيا واحدًا من أروع الإبداعات الفنية في مصر الفرعونية. وهو تمثال يمثل حم إيونو جالسًا في هيئة طبيعية بجسد مترهل كأحد أهم العلامات الفنية في المدرسة الواقعية في فن النحت في مصر الفرعونية قاطبة. وسوف يظل اسم المهندس العبقري حم إيونو حاضرًا في ذاكرة مصر والعالم كله بسبب إعجازه الهندسي والمعماري والعجيبة الوحيدة الباقية من عجائب العالم القديم، هرم الجيزة الأكبر.
عنخ حاف
المهندس عنخ حاف هو المهندس الذي أكمل بناء هرم الجيزة الأكبر بعد المهندس حم إيونو وفقًا لبرديات وادي الجرف. ومن أبرز البرديات المكتشفة في وادي الجرف مجموعة قطع يزيد بعضها في عرضه على 50 سنتيمترًا، تكتسب نصوصها أهمية كبيرة حيث إنها تقرير يومي بأنشطة أحد كبار الموظفين المسؤولين من العاصمة منف، وهو مسؤول عن أحد عن فرق العمل الفنية في الموقع، وهو المفتش «مرر»، والذي كان يقود فريق عمل مكونًا من عدد كبير من الرجال. وأمدت البرديات بمعلومات عن ثلاثة أشهر من حياة «مرر» الوظيفية، مما جعلنا نعرف الكثير من الأمور عن حياة الموظفين في عصر الأسرة الرابعة، ومنها قيام فريق العمل بنقل كتل الحجر الجيري من محاجر طرة على الضفة الشرقية للنيل إلى هرم خوفو عبر نهر النيل وقنواته.
ونص البردية يظهر فيه الشهر في شكل سطر كبير باعتباره عنوانًا، وتحته في أسطر رأسية خطوط تمثل خانات تفصل بينها، تبدأ برقم اليوم، وتحته في سطرين رأسيين، تقرير بالنشاط الذي أداه فريق «مرر» في هذا اليوم. ويشير كثير من الأنشطة إلى أعمال مرتبطة بالأعمال الإنشائية في الهرم الأكبر وعمليات قطع أحجار الحجر الجيري الجيد من محاجر طرة والمعصرة والتي كانت تستخدم في كسوة الهرم. وتشير اليوميات أيضاً لتفصيلات ووصف لعملية نقل الكتل الحجرية من موقع المحاجر، «را ستاو الجنوبية» و»راستاو الشمالية» لمكان إقامة الهرم عبر نهر النيل والقنوات والترع المرتبطة به. وتشير نصوص البردية إلى أن هذه الكتل كانت تستغرق عملية تسليمها عدة أيام لمنطقة «آخت خوفو»، وهو اسم هرم الملك خوفو.
وتشير تقارير «مرر» لمرور معظم الإجراءات التنفيذية بمركز إداري هو «را-شي-خوفو» والذي يبدو أنه كان مركزًا لوجستيًا تتوقف عنده فرق العمل قبل تسليم ما يحملونه في منطقة هضبة الجيزة. وتشير النصوص إلى أن هذا المركز اللوجستي كان تحت إشراف أحد كبار موظفي الدولة، وهو المهندس العبقري «عنخ- حاف»، وهو أخ غير شقيق للملك «خوفو»، وكان المشرف على كل الأعمال الملكية. وتؤكد هذه اليوميات أنه ربما كان يقوم بأعمال الوزير والمهندس المسؤول عن المشروع القومي لإقامة الهرم في مراحله الأخيرة. وبالتأكيد كان الهرم في مراحل إنشاءاته الأخيرة مع اقتراب نهاية حكم الملك «خوفو». ويبدو أن ما يفسر وجود مثل هذه التقارير المهمة في وادي الجرف أن نفس فرق العمل التي كانت تعمل في البرامج الإنشائية للمقابر الملكية كانوا مسؤولين عن مشروعات الدولة الأخرى، ومنها أعمال وادي الجرف. وربما كانت هذه الفرق الموجودة في الموقع معنية بإحضار النحاس من مناجم النحاس بجنوب سيناء، وهو النحاس المستخدم في تصنيع أدوات كانت تستخدم في الأعمال الإنشائية بالهرم. ويعد ميناء وادي الجرف من أهم الموانئ في مصر القديمة حيث انطلقت منه الرحلات البحرية لنقل النحاس والمعادن من سيناء إلى الوادي. وبعد ذلك قام “مرر» وفريقه بعملية غلق موقع الميناء ومغاراته بكتل حجرية ضخمة. وكان هذا في العام الـ 27 من حكم خوفو، وهو تاريخ يرتبط بتوقف أعمال استخراج النحاس والفيروز من مناجم جنوب سيناء، وربما يرتبط بتاريخ انتهاء الأعمال في إنشاء الهرم.
لقد أكمل المهندس عنخ حاف بناء الهرم الأكبر ثم انتقل إلى بناء هرم الجيزة الثاني الخاص بابن أخيه الملك خفرع، فأبدع في تصميمه وتنفيذه مثلما أبدع في بناء الهرم الأكبر. ويحتفظ متحف الفنون الجميلة بتمثال نصفي للمهندس عنخ حاف يمثله في هيئة طبيعية من أروع ما يكون ويكاد ينطق من روعة الإبداع الفني.
حفلت مصر الفرعونية في عصر الأهرامات بعدد كبير من المهندسين العباقرة الذين نفذوا تلك الأعمال المعمارية الخالدة التي أذهلت العالم منذ بنائها، وما تزال تذهل العالم كله إلى الآن. وهذا يوضح حقيقة أن هذه هي مصر، أرض الحضارة والإبداع وفجر الضمير. وهذه هي مصر التي علمت العالم كله.