قصة بقلم : نعمة الله رياض
نهضت وفاء من فراشها ، جلست علي حافته بعد ليله عانت فيها من نوم قلق ومتقطع ، كانت لا تزال مغمضة العينين ، ضغطت بأصابع يدها علي جبهتها وهي تشعر بصداع يؤلمها ويمنعها من فتح عينيها .. مرت دقيقة أو إثنتين حتي غالبت نفسها ورفعت جفنيها لتري زوجها بكرشه الضخم يغط في نوم عميق ، وشخير منفر يصدر منه من آن لأخر.. نظرت اليه ، وتنهدت بصوت خافت ثم قامت تجر أقدامها إلي المطبخ في أول مهامها اليومية .. أعدت طعام الإفطار وأيقظت زوجها ، ثم دلفت لحجرة إبنتها وأيقظتها بصعوبه كما تعودت معها كل صباح ، أعدت شطائر محشوة ليأخذها زوجها وإبنتها وهما متوجهان لعملهما ..
تذكرت انها بعد ساعتين يجب أن تكون في عيادة طبيبها النفسي سامح لحضور الجلسة الأسبوعية ، إغتسلت وإرتدت بنطالاً وقميصاً أنيقاً يظهرا جمال جسمها الممشوق ، تعطرت ، ونظرت إلي المرآة .. من يصدق أن إمرآة بهذا الجمال والأناقة، أم لفتاه في الخامسة والعشرين من عمرها ، وهي ما زالت في العقد الخامس من عمرها ؟ !!
في عيادة الدكتور سامح إستلقت متمدده علي طاولة الفحص ورأسها علي وسادة تتيح لها رؤية الطبيب الذي جلس علي مقعد مجاور لرأسها ماسكا قلماً وكراسة يكتب فيها ملاحظاته .. ضغط سامح علي زر جهاز التسجيل بادئا الجلسه ..
- مرحبا يا سيدتي ، يمكنك استكمال ما تحدثنا عنه في الجلسات الماضية ، وتوقفنا عند موقف عليك إتخاذ قرار بشأنه ولا يتطلب التأجيل، فإذا بذاكرتك تذهب فوراً وتستدعي موقف مشابه من الماضي كان مؤلما لدرجة انك لم تستطيعي إكمال الجلسة وغادرتي العيادة مسرعة والدموع تغطي وجهك.. هل انت الآن في حالة تسمح بإستكمال الحديث؟ نظرت وفاء لوجه الدكتور سامح الوسيم الذي يشعرها بالطمأنينة والأمان، وقالت :
- لقد تذكرت حالي منذ نعومة أظافري، لقد نشأت في مجتمع محافظ شديد التسلط والتزمت، خصوصاً مع الإناث ، وكغيري من البنات كنا نعامل بطريقة مختلفة تماما عن أخوتنا الذكور ، فقد شربنا لبن القهر، وتنفسنا هواء الخوف ، فلا تمشي الواحدة منا إلا مع مرافق ، ولا تغيب إلا بحساب ، ولا تجرب أي شئ فيه المساس بسمعتها ، ولا تقفز في المجهول ، فمثلا إذا ارادت الواحدة منا دخول الحمام في الشارع ، تحكم نفسها وتتحمل حتي تعود إلي منزلها وتدخل حمامها ، بينما لا يستطيع الرجل إمساك نفسه عند التبول ، و لو كان في الشارع فإنه يهرع مضطراً إلي أي جدار قريب ..!!
- وهل يصح يا سيدتي أن تفعل المرأة مثل الرجل في هذه الحالة؟ !!
- بالطبع لا ، أردت فقط أن أوضح أن مساحة الحرية المتاحة للرجل كبيرة جداً بالنسبة للمرأة..
- أكملي من فضلك ..
- تعرف الأنثي منا الطاعة وكبت الرغبات ، مهما كانت ، وتبكي في وحدتها وغرفتها وتدفن وجهها في الوسادة حتي لا يسمع أنينها ، هكذا يربي المجتمع الذكوري في الأنثي القدرة علي التعايش مع القهر والحرمان ، وتتحمل الأنثي منا كل هذا الجحيم وتعتبره طبيعتها اللصيقه ، لذا فالأنثي أكثر قوة بمراحل عن الذكر ..
- ها انت تذكرين شيئاً يرجح كفة المرأة بالنسبة للرجل ..
- حقاً يا دكتور ، فمثلا بعد الزواج ، وعند أول خلاف ، يفاجئ الذكر الحر اللاهي ، غير القادر علي التحكم في نفسه ، بأن زوجته شئ جبار عاتي ، فهي قادرة علي كبت رغباتها بسهوله ، وقادرة علي الهجر والخصام وتحملهما مهما طال الزمن ، فلا تأتي إليه أو ترضيه ، وانما تتركه هو من يأتي إليها ويرضيها ، والأفضل حاملا معه هدية !، فبالرغم من حريته النسبيه ، يتعذب ويستسلم لزوجته ويصير مجرد طفل لها تربيه وتسقيه المرار الذي شربته هي منذ بدء حياتها..
- وهكذا ، في رأيك ، تصبح الأنثي قاهرة قاهريها !! واضح يا سيدتي خبرتك في قيادة سفينة الزواج بسيطرة وإقتدار .. فما هي إذاً المشكلة التي تقض مضجعك ؟ وجعلك تغادرين علي عجل الجلسة الأخيرة والدموع تنهمر من عينيكي..
- لن أنسي ذلك يا دكتور، فقد كنت في العشرين من عمري عندما تقدم لعائلتي رجل أعمال ثري يطلب يدي ، لم يكن وسيما علي الإطلاق وكان يكبرني بإثني عشر عاما، لم يكن الصورة التي أتخيلها لفتي أحلامي ، فرفضته رغم كل محاولات الترغيب والترهيب ، وكنت مصرة علي عدم تقديم المشروبات له ولوالدى في حجرة الإستقبال ، كما جرت العادة ، وهنا نظرت لي والدتي بحدة وصرخت في وجهي :
- ليس عندنا بنات لهم رأي في مستقبلهن ، نحن نعرف مصلحتك ، لا يعيب الرجل إلا جيبه ، هل تريدين أن تصبحي عانس وتجلبين علينا العار .. لطمتني علي وجهي بشدة .. لطمة لم ولن أنساها قط ، وقد مضي عليها أكثر من عشرين سنه ، وهكذا رضخت ، وأصبح هذا الرجل زوجي الحالي .
- إذاً ، ما هو الموقف الذي عليك إتخاذ قرار بشأنه ولا يتطلب التأجيل ؟
- للأسف ، قد تكرر هذا الموقف الآن ، ولكن مع إبنتي شيرين ، فلقد تقدم لنا رجل أعمال فيه كل الصفات الحميدة ، فهو رجل وسيم ومثقف ورياضي وثري وأكبر من شيرين بثلاث سنوات فقط ، لكنها رفضته من حيث المبدأ !! .. الجيل الجديد يا دكتور يفكر بطريقه مختلفة عنا تماماً .. شيرين ترفض أن تكون سلعه إجتماعيه تباع وتشتري، وترفض وصاية المجتمع والوالدين والأشقاء عليها ، وفي رأيها انه قد تم إجحاف حق المرأه ، وأهمل الجانب الإنساني فيها خاصة عند إختيارها كزوجه ، وقررت الا تتنازل عن حقها في إختيار شخص قريب منها من حيث الأفكار ورؤيته للحياه ، ويبادلها الحب لشخصها كإنسانة ..وهي تعتبر أن جوهر الرجل ليس في شكله الظاهري وعضلاته ، بل في تلك القوة الكامنه فيه ..
- وكيف كان رد الفعل من جانبك كأم ؟
- بالنسبه لي ، فقد عشت القلق كله ، فهل أكرر مافعلته أمي بي وأجبرها علي خوض مأساة كمأساتي ؟ ، لكن الوقت قد تغير، وفتاة بالعقلية التي شرحتها لك ، لن تقبل فرض زوجاً عليها، أعيش يا دكتور في كوابيس تضج مضجعي ، ويعمل خيالي علي تداعيات لرد فعلها ، كهروبها من المنزل أو زواجها من أي رجل آخر بدون علمنا أو أتخيل الأسوأ وهو إقدامها علي الإنتحار !! وكل ذلك من ردود الأفعال ، يجلب الأسي والعار علينا .. وهكذا فإن نومي قلقاً ونهاري شروداً.. فأنا يا دكتور معلقة بين ماضي أخشي تكراره ومستقبل لا ينبئ بخير ..
- وكيف كان رد الفعل من جانب الأب ؟
- والدها مصر علي قبول العريس ، ولو إستدعي الأمر دعوة مجلس العائلة الذي يضم الأعمام والعمات والخلان والخالات لإجبارها علي الزواج .. فما هو الحل يا دكتور؟ أغثـني من فضلك ..
فكر سامح ملياً، ثم نظر لعيني وفاء نظرة ثاقبة وقال لها : - الحل هو أن تحصل شيرين علي حريتها ، دعي مجلس العائلة ينعقد وأخبريهم أن الزمن قد تغير وتخشي من رد فعلها الحاد الذي قد يجلب العار عليهم جميعاً..
إتصلت وفاء هاتفيا بطبيبها النفسي سامح ، وطلبت زيارته لتشكره علي ما قام به من أجلها، فقد وافق مجلس العائله أن يعطي لشيرين حرية اختيار زوجها .. ضحك سامح ، ووافق ورحب بقدومها في أي وقت !! إغتسلت وفاء وإرتدت رداءاً أنيقا أحمر اللون ، كذلك كان لون طلاء أظافرها وشفتيها ، تعطرت بكثافه بعطر أنثوي قوي وأخاذ ونظرت إلي المرآة ، وإبتسمت إبتسامة الواثقه من النصر !!