بقلم: تيماء الجيوش
مع طباعة اخر صفحة ارتسمت ابتسامةً واسعةً على وجهها دامت لبرهةً من الوقت وتلك الراحة التي تسعُ الكون تتملكها بأكملها ولما لا ، فها هي قد انتهت من كتابة الدراسة ضمن المدة الزمنية المحددة لها من قبل الادارة.
تناولت دراستها مركزاً طبياً يخدم نسبةً جيدة من مساحة الريف و يختص بأمراض العيون لدى الاطفال. كان أمراً صحياً مُلحاً نظراً للإحصائيات الطبية التي كانت تردُ بانتظام مُنذرةً بالاخطار المحتملة و ازدياد نسبة قصر النظر لدى الاطفال بل و العمى في الحالات الشديدة مما سيؤثر بالنتيجة على التعليم فمعظمهم من طلاب المرحلة الابتدائية. الحل كان برأيها و خبرتها هو في العناية الصحية المستمرة و المركز الطبي هو الذي سيراقب الوضع بمجمله كما سيحمي الاطفال من كوارث تُصيب الرؤيا بالفحص المُبكر وسوف يوفر الكثير من فرص التعليم لهم في المنطقة. كان الأمر قريباً الى شغاف قلبها فهو إنساني بحت ولا بد لتلك الأسر و أطفالهم من صوتٍ يوصل ما هو ضروري و عاجل. دفعها هذا كله لأن تبذل جهداً مضاعفاً لتنهي الدراسة المقررة و الانتقال لمرحلة التنفيذ سريعاً.
كان عليها ان تجمع ما تبقى من الوثائق اللازمة ، أن تلتقي بمزيدٍ من الأشخاص من لهم تجاربهم في هذا المضمار. أرادت أن تُنصت لخبرتهم وما اتخذوه من خطوات عملية تكفل نجاحاً بعيد الأمد و ليس آنياً لمشروعٍ واعد لزمنٍ مختلف ، كما كان عليها لاحقاً أن تسافر لمواقع مختلفة في محيط العاصمة كي تطابق ما بين المواصفات المطلوبة و ما هو على أرض الواقع حقاً. قابلت العديد من الاهالي و الطلاب ، اجتمعت مع الكثير من الكوادر المختصة. لم تتأفف او تتبرم من هذا كله، بل كانت سعيدة ، فها هو اقتراحها الذي تقدمت به منذ عامين تحديداً ، قد اصبح مشروعاً يأخذ طريقه بشق الانفس من الادراج المُغبّرة الى طاولة النقاش ، ليس هذا فحسب بل يتم تكليفها هي بالذات بإعداد الدراسة الفنية للبدء بتنفيذه و ذلك خلال مدةٍ أقصاها ثلاثة اسابيع و هكذا كان. لم تتسائل و لم تتوقف لثانية عن قبول المهمة و لم تتوقف كثيراً عند الجهد و الوقت و التكلفة الشخصية وأن هذا قد يكون مُرهِقاً الى حدٍ ما، ما كان يهم حقيقةً ان تكون كل اهداف دراستها واضحة و رؤيتها متكاملة بتفسيرٍ لاالتباس فيه و يلتقي مع الاسئلة التي طُرِحت مُسبقاً أو التي ستُطرح لاحقاً في أي بندٍ. اتصلت أولاً بالمدير العام وأخبرته بأنها جاهزة للقائه و الفريق الاداري للنقاش. هنئها و أثنى على عملها و طلب منها القدوم الى الاجتماع عند الساعة الخامسة عصراً وأن المكان سيكون في المبنى الرئيسي .
بحلول الخامسة الا ربع كانت هناك . دخلت قاعة الاجتماع، الاضواء خافتة لكنها استطاعت أن تُميز السيد سامح ، لم يكن هناك أحدٌ سواه ، هو نائب المدير العام و رئيس لجنة تنفيذية ، ألقت التحية عليه ، كان يجلس على رأس الطاولة بعيونه الصغيرة المحتجبة خلف نظارة طبية عفا عليها الزمن و بشاربه الرفيع و شعره الذي امتلأ صباغاً أسود و عطره الرخيص الذي يفوح في أرجاء القاعة. ما يسبق السيد سامح هو سمعته الرديئة ، هو لا يوفر إمرأةً، التحرش بالموظفات هو الصفة الملازمة له. وله من العمل لاربعة عقود و العلاقات و المحسوبيات و الدهاء الشيء الكثير ، ما وفر له غطاءً آمناً و دائماً لتجاوز تحرشه بزميلاته من النساء.
قبل اعوامٍ مضت تحرش بإحدى الموظفات الرئيسيات في الإدارة ، ثارت ضده و حين حاولت ان تتقدم بشكوى عاجلها باختراق جهاز الكمبيوتر الخاص بها في العمل و هاجمها متهماً إياها بالمقابل انها تصرف الوقت بتصفح مواقع مُخلّة بالحياء. تطرد هذه الصور من تفكيرها و ترجعه لمفاجأتها بوجود السيد سامح فقط وحيداً بانتظارها دوناً عن بقية الفريق الاداري. على أية حال هي إمرأة لديها الكثير من الاصول المهنية ، هي الان في صددٍ اخر ، ذاك المركز الطبي لا بد ان يصبح حقيقة . عليها ان تدافع عن الدراسة بكل ما أوتيت من قوة في الاجتماع الذي سيبدأ قريباً و ان تضع كافة النقاط على جدول النقاش. و ليس هاماً وجود السيد سامح او عدمه في هذه الساعة. جلست على الجهة المقابلة ، امتدت يدها الى حقيبتها و قبل أن تدرك ما يحدث وجدته و بشكلٍ خاطف قد جاء للجلوس الى جوارها. اصابها دواراً خفيفاً من عطره الرخيص ، نظرت إليه متسائلة في محاولةٍ لكسر حرج اللحظة ، سيد سامح هل سيحضر الفريق الاداري بأكمله ؟ أجابها نعم والاجتماع سيبدأ عند السادسة عصراً ، تم تكليفي بإبلاغك و لكنني انشغلت قليلاً. هذه الجملة ساقتها إلى استنتاجٍ أنه ربما و ليس مؤكداً قد تعمد عدم إبلاغها الموعد الثاني. إذاً وليكن ، نهضت من مقعدها قائلةً بأنها ستعاود القدوم بعد ساعة و أنها ستكون في الجوار. سارع ليمسكها من يدها و باليد الاخرى يضغط على كتفها أن اجلسي. دهشتها كانت تغزوها و تعقد كلماتها، علاقتهما مهنية و لا تتجاوز حد إلقاء التحية ، ما الذي يحدث ما الذي يريده هذا الرجل؟ أبعدت كلتا يديه عنها ونظرت إليه بحزم ، ما هذا سيد سامح؟ أجابها و شاربيه الرفيعين يتراقصان ، لا شيء لكن اجلسي دعينا نسترخي ونسمع قليلاً من الموسيقى فلا بد أنك متعبة بعد كل هذا العناء و صدقي الوقت سيمضي سريعاً فلا داعي لأن تغادري و ختم ما قال بضحكةٍ أقرب إلى الحشرجة ليفغر عن فاهٍ عجوز و أسنان صفراء متهاوية. .ردت و بحزم سيد سامح بل أُفضل أن أذهب و أعود لاحقاً ثم استدرت لتجده يقترب أكثر و بفجاجة أغلظ من ذي مما سبق، عندها عادت الى الخلف بخطواتها ثم أتجهت نحو الباب لتترك المكان بأكمله ، سارع من خطواته في أثرها ليُقبّل رقبتها. شعرت أن غضباً عاصفاً يجتاحها .
منذ اسابيع و هي تعمل لانهاء دراسة هامة ستنقذ الكثير من الاطفال، انهكها التعب و لم تبالي ، التهم العمل ساعاتها و لم تبالي ، بل أسعدها حقاً أن الأمر دخل مرحلة التبني الاداري بعد مرور عامين و هي ترجو ان يرى اقتراحها النور و أن تنخفض نسبة الاصابة لدى الاطفال ثم يأتي هذا الكائن الغريب و المدعو بالسيد سامح ليُغرق هذا كله في طياتٍ من عدم الاحترام و التحرش و غياب الاحتشام . المخيف حقاً تلك الثقة لديه و الاطمئنان بأنه لا حسيب و لا رقيب عليه أو على سلوكه المشين. تتجمع دمعة عند زاوية عينها ، يزداد غضبها لاحساسها بالضعف . ترفع يدها و بكل قوة تصفع وجهه سقطت نظارته على الارض و قبل ان يتمالك نفسه كانت تهوي على وجهه بالصفعة الثانية ثم تتجه نحو نظارته لتسحقها بقدمها . ينطلق لسان السيد سامح أن اذهبي انت و الاطفال جميعاً الى الجحيم أيتها الغبية و ألحقها بكل الشتائم البذيئة والتهديد . تعاود النظر اليه أي كائنٍ مثيرٍ للشفقة أنت؟ الى أية فصيلةٍ تنتمي؟ لن ينتهي الأمر عند هذا الحد ، أنا أعدك أنه لن ينتهي . يصرخ بها و يتوعدها بأقذع الكلام و أن عليها أن تنسى الدراسة و ألا تنسى من هو، و أن لرأيه و لجنته القرار الفصل، كان صراخه يتعالى كالعواء و لا يهدأ. تخرج من المبنى الى الهواء الطلق ، كم احتاجته رئتيها ، كم احتاجت أن ترى ضوء النهار. سارت و هي لا تريد سوى بعضاً من السلام الداخلي. تُهدّئ من روعها، لا بأس فغداً نهار جديد. الغد و ما يليه ليس ملكاً لسامح و امثاله. غداً ساتقدم بشكوى و لن اتراجع خطوةً الى الوراء. إن لم احفظ كرامتي فلن يحفظها لي أحد.