بقلم: تيماء الجيوش
يُعدُّ وادي النيل مهداً لحضارة كوش التي ماثلت الحضارة المصرية و تداخلت معها قبل أربعة آلاف سنة و تمركزت جغرافياً في منطقة النوبة و وصلت الى درجةٍ بعيدة من الازدهار و الرقي حيث وصل عدد اهراماتها الى ما ينوف عن المائتين. وصفها بعض علماء العالم القديم «ببيرمنغهام افريقيا القديمة ..» حكمت المرأة في كوش و في التاريخ تعود كلمة كنداكة الى لقبٍ صاحبَ الملكات او زوجات الملوك في تلك المنطقة في إشارةٍ الى تمتعهن بالقوة و العظمة و لعل أهمهن تاريخياً هي الملكة اماني رينا التي أوقفت تقدم الرومان بعد اجتياحهم لمصر و حافظت على مملكة كوش بعيداً عن حكمهم. لم يقتصر حكم ملكات كوش ( الكنداكة) عند منع الغزو و القوة بل كان حكماً عادلاً و منصفاً حيث تمتعت مجتمعاتهم بالثراء و رغد العيش. قفز اللقب مع أبعاده التاريخية و دلالته حين تسّمر معظمنا أمام الأخبار و ووسائل الاتصال الاجتماعي يتابع ما يحدث في السودان و ينصت طويلاً الى ( حبوبتي كنداكة) . كان هذا منذ العامين تقريباً أي في ديسمبر ٢٠١٨ حين خرج المتظاهرون تتقدمهم النساء مطالبين بالديمقراطية و دولةٍ و مجتمعٍ لا مكان فيهما لحكمٍ سلطوي وإنهاء حكم البشير . كانت نسبة مشاركة النساء في التظاهر تفوق ٧٠٪ أحياناً . حضرت كنداكة النيل المعاصرة و هي تُشكّلُ امتداداً مدينياً لتلك التي كانت في كوش. حضرت كنداكة المعاصرة لتترأس لجان الاحياء و تنظم التظاهر و تحدد مساراته في شوارع السودان. لم تعد المرأة السودانية تقبل بأقل من إسقاط النظام و رئيسه و هي تعلم يقيناً أنها قد تُجلد أو تُحبس أو تُضرب أو تتعرض للعنف اللفظي و الجسدي بما فيه الاغتصاب و تكون محلاً للعديد من القوانين المهينة تشريعياً و إنسانياً. أطلق هذا الحضور المختلف كماً و نوعاً عما سبقه توقٌ مجتمعي في إستعادة أمجاد المرأة السودانية و طرح الصور النمطية بعيدا عنها حدث هذا في لحظةٍ فاصلة و أمام القيادة العامة للجيش السوداني حيث كانت آلاء صالح أو كنداكة العصر الحديث تُحرك الجموع و هي تنادي بالثورة التي يريدها الشعب و تُلقي بالشعر في أحيانٍ اخرى . تلقف المتظاهرون ما يحدث في حراكهم السياسي ليعلنوا أن الثورة السودانية أنثى. و لكنه أيضاً في المنطق السياسي كان مؤشراً حيوياً حول المشاركة الحقيقية للمرأة على الساحة السياسية و نبذها الحاد لكل الاقصاء و التعنيف الذي وقع عليها عبر ثلاثة عقود من ملبسها الى ممارسة حقوقها أجمع، تقدمت النساء و الفتيات التظاهر ات لم تعد تُخيفهن أعمال الضرب و العنف و الجلد. حفيدات النيل لم يعدن يرتضين بقوانين تحدُّ من حريتهن.
نجحت الثورة و تحقق الحلم الديمقراطي و ليُعقد مجلس الامن في الامم المتحدة لاحقاً في معرض اجتماعاته عن المرأة و الأمن و السلام في العام ٢٠١٩ و بحضور ٍ هام من قبل ناشطاتٍ سودانيات على رأسهن آلاء صالح حيث ناقشن حقوق المرأة السودانية و آفاق مشاركتها السياسية مستقبلاً . كلمة آلاء صالح امام مجلس الامن تمركزت حول محورين هامين الاول ألا و هو حقوق المرأة السودانية و حمايتها و مشاركتها السياسية في السودان الجديد و ثانيهما هو نزع السلاح و اعتماد مبدأ المسائلة و المصالحة في الوطن بعد سنين من جرائم الحرب و الإبادة الجماعية و جرائم ضد الإنسانية. آلاء قدمت نفسها كإمرأة لم تفصل بين حلمها و احلام من كان يحيطون بها كل يوم لم تفصل حلمها عن السوداني/ة و هم يبحثون عن لقمة العيش و يحاربون الفقر بلا هوادة ثم يتعالى صوتهم مطالبين بالديمقراطية و حقوق الانسان في تحدٍ شجاع للرصاص الحي و القنابل المسيلة للدموع و الاعتقال و التعذيب لم يوقفهم هذا كله من مطالبة الديكتاتورية بالرحيل و هم على علمٍ تام بأن لا حماية قانونية لهم فالتشريع السوداني كان قد صُمم كما هو الحال في العديد من الدول العربية لمعاقبة المعارضة السياسية تحت حججٍ واهية و إلقاء من يعارض في غياهب السجون دون محاكمة أو دفاعٍ يتسق و قواعد العدالة بل ما كان يُطبق آنذاك هو احكام قانون الطوارئ و لقمع النساء تحديداً و إبعادهن عن الشأن العام او المشاركة الفاعلة في الدولة و مؤسساتها فالحكمة لدى النظم السلطوية في الشرق هنا أن تُهمّش و تُبعِدَ المرأة عن العمل السياسي يعني ضمان صمت نصف المجتمع و تغييبه. لدى آلاء مسيرتها ما هي إلا مسيرة متممة لمن سبقها من نساء السودان فهي لم تأتي من فراغ بل من إرثٍ جميل موغل في القدم و حضارةٍ تسابقت النساء للمشاركة بإعادتها حيةً نابضة. بنجاح الثورة كان مُخيباً للأمل أن تعود المرأة لموقعٍ غير مؤثر و بعيد عن صنع القرار و لُتعقد جلسات التفاوض مع العسكر بعيداً عن الحضور النسوي فقط إمرأة واحدة كانت هناك كان هذا أبعد ما يكون عن المشاركة و المناصفة بها التي نودي بهما في الثورة السودانية. الأكثر ألماً تعقيدات إدارية و تنفيذية بما يناقض حقوق المرأة ككل و كجزء و استمرار إثارة الرعب لدى النساء . في متابعة كلمتها ربطت آلاء و بشكلٍ دقيق وواضح بل و حقيقي تماماً بين هذا الواقع بمجمله ووجود تشريعٍ تقليدي محافظ بعيد عن مساواة المرأة و احترام حقوقها و بين استمرار العنف و عدم الاستقرار و بتقديرها أن المسائلة و العدالة هما من الكفاية لرد الاعتبار للمجتمع السوداني ككل و ليس فقط نسائه. و اعتبرت أن سر قوة مجتمعها هو بتنوعه و تعدده الاثني و العرقي و الديني و الجندري. انتهت كلمة آلاء و لازالت أحرفها تتردد فيما يعايشه السودان اليوم. لا زال السودان ما بعد الثورة يبني في دولته الديمقراطية الحديثة و لا زالت هناك العديد من القضايا المطروحة للنقاش و المطالب الشرعية لابناء السودان أنفسهم كيف يرون وطنهم و نظامه و مؤسساته مستقبلاً.
بلد النيل الان يعيش بناء ديمقراطية حقة و ستأخذ وقتاً لتتبلور و ترسخ . ستبدأ ببناء برلمانات حقيقية تمثل السودان بأكمله ، انتخابات حرة لكل ابنائه سواسية و تُعنى بآليات النزاهة و حقوق الانسان مترافقة مع تبني منظومة تشريعية-قانونية لعل اهمها الدستور . و الاهم تعزيز مشاركة المرأة في الشأن العام و الحياة السياسية لا سيما في الهيئات التشريعية. مراعاة المفهوم الجنساني و إن شئت الجندري الذي لم يُعد رقماً فقط تتقدم به الحكومات و الدول لتُسجل نقاطاً سياسية واهية او غير صحيحة على صعيد المؤسسات الدولية. المفهوم الجندري او الجنساني أصبح ركيزةً لمقومات مبدأ المساواة و الذي هو من اهم المبادئ التي تدعو اليها ديمقراطيات العالم و منظماته الدولية. الديمقراطية لا تتحول الى حقيقة واقعة إلا بإحترام حرية التعبير و حرية التجمع و الانتخابات الحرة النزيهة التي تمثل الشعب بأكمله و كل ما نصت عليه المواد ١٩، ٢١، ٢٢، ٢٥ من العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية و بقية العهود و المواد و المواثيق الدولية. . الديمقراطية تصبح جزءاً من حياتنا اليومية عندما يعيش الكل في ظل احترام مبدأ المساواة. . حتى تحين تلك اللحظة التي يتم فيها حسم العديد من النقاط الهامة كالعدالة و المحاسبة و المصالحة و المساواة و احترام حقوق المرأة لنا جميعاً أن نرفع قبعاتنا تحية لنساء السودان العظيم. كل عام و ثورة السودان بالف خير. تحية لكنداكة النيل و زمن الديمقراطية القادم.
اسبوع سعيد لكم جميعاً