بقلم: د. حسين عبد البصير
مؤامرات النساء في البلاط الفرعوني
كانت مصر القديمة كأي مجتمع إنساني تمور بحياة عارمة تتأرجح فيها حياة المرء بين المجد الذي لا يُضاهى والضعف الإنساني الموجود لدى البشر العاديين أجمعين.
وفى هذا السياق الحضاري المتنوع، لا يمكن إغفال أو تجاهل حياة القصر الملكي- الذي كان يعيش فيه الملك مع أفراد عائلته والمقربين من حاشيته- بكل ما كانت تعج به من أحداث جسام ارتفع بعضها إلى درجات عظمى وانحط بعضها إلى منازل دنيا من الخيانة والخسة والدناءة. وغلبت الغيرة والطموحات والمؤامرات حياة القصور الملكية المصرية القديمة في بعض المناسبات، وامتلأت تلك القصور -التي كانت ملء البصر- بصراعات محمومة لا حدود لها، كانت أحيانًا معروفة للجميع وأحيانًا أخرى مكتومة تحت السطح. وكان من أهمها الصراع والتآمر على العرش والملك نفسه بين الزوجات الملكيات أمهات أولياء العهود الشرعيين وبين الزوجات الثانويات وأبنائهن الطامحين لحكم مصر بعد رحيل الملك الأب وصعود روحه إلى مملكة السماء واتحاده بالأبدية.
وعلى الرغم من أن الوثائق الرسمية لم تكن تميل إلى تسجيل تلك الوقائع التي لم تكن تتناسب مع جلال وعظمة الملكية المقدسة في مصر القديمة، وتتناقض تمامًا مع الصورة المثالية التي كانت العائلة الملكية تتوق دومًا لإظهار نفسها عليها، يمكن استنتاج بعض من تلك الوقائع الاستثنائية التي وصلت إلينا في عدد محدود من الوثائق المصرية القديمة مثل بعض السير الذاتية التي لم يكن الهدف من ذكر تلك الأحداث عرضًا الطعن في الملكية المصرية المقدسة بقدر التأكيد على رغبة صاحبها في إظهار أهميته واستخدام الواقعة المذكورة دليلًا على تلك الأهمية المزعومة.
ومن أوائل الإشارات إلى حدوث أمر غير عادي في حريم القصر الملكي، ما جاء في سيرة الموظف «وني»، من الأسرة السادسة من عصر الدولة القديمة أو عصر «بناة الأهرام». وفيها يروى، ضمن الأفضال الملكية التي أنعم جلالة الملك «بيبي الأول» بها عليه كشخص موثوق فيه: «عندما كانت هناك قضية سرية في الحريم الملكي ضد الملكة…، جعلني جلالته أذهب كي أحقق (فيها) وحدي. ولم يكن هناك كبير القضاة ولا الوزير، ولم يكن هناك مسؤول، فقط أنا وحدي؛ … ولم يحدث أبدًا من قبل أن حقق أحد مثلي في أمر من أمور حريم الملك؛ غير أن جلالته جعلني أحقق فيها».
ولا نعرف على وجه اليقين التهم التي وُجهت إلى تلك الملكة؛ فلم يذكر «ونى» أكثر مما قاله ربما حفاظًا منه على هيبة الملكية المصرية المقدسة في ذلك العصر المبكر، وترك الأمر غامضًا يثير لعاب المفسرين للنص للأبد.
وقد يكون الوزير شارك الملكة في التهمة المنسوبة إليها، ولعلها خانت الملك، أو أنها كانت تتآمر ضد إحدى زوجاته المحبوبات، أو ضد أحد أبناء زوجاته لمنعه من بلوغ عرش مصر، أو ضد الملك نفسه. وقطعًا للشك، أمر الملك «بيبي الأول» الموظف «ونى» بأن يحقق في الواقعة منفردًا ويرفع النتيجة إليه، ولم نعرف ما فعله الملك مع الملكة المتهمة.
وفي عصر الدولة الحديثة، عصر الإمبراطورية المصرية العظيمة في آسيا وأفريقيا، وتحديدًا في الأسرة العشرين وقُرب نهايتها، تآمر بعض من الحريم الملكي وآخرون ضد الملك رمسيس الثالث، وتم قتل آخر فراعنة مصر العظام، في أواخر حياته.
ونعلم عن تلك المؤامرة من المحاكمات التي تمت للمتهمين، وشارك في المؤامرة عدد من حريم القصر الملكي وبعض سقاة البلاط وحرسه وخدمه. ولم يعرف هدف هؤلاء المتآمرين. ولعل السبب الرئيس لتلك المؤامرة أن إحدى زوجات الملك الثانويات، وتدعى «تي»، بالتعاون مع بعض نساء القصر، خططت لاغتيال الملك كي تضع ولدها «بنتاورت» على عرش مصر بدلًا من ولى العهد الشرعي (الملك رمسيس الرابع بعد ذلك).
وتم اغتيال الفرعون. وانكشفت المؤامرة. وحُقق فيها بأمر من الفرعون اللاحق، وحكمت المحكمة على المتهمين بأحكام تتراوح بين الإعدام والانتحار والجلد والسجن وقطع الأنف وصلم الأذن والبراءة، كل وفقًا لدوره وجريمته في تلك المؤامرة المشينة.
ويجيء هذا النص الفريد الذي يذكر تلك الواقعة المثيرة من الوثائق الرسمية. وهذا يشير إلى تغير كبير حدث في مفهوم الملكية المقدسة التي أصبحت هنا تميل إلى تصوير الفرعون في صورة بشرية إنسانية به ضعف، مثله في ذلك مثل باقي البشر العاديين، ولم يعد ينظر إلى الفرعون على أنه إله يحكم على الأرض نيابة عن آبائه الآلهة المقدسين في أعلى عليين.
مومياء المرأة الموشومة
عثرت بعثة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية على مومياء امرأة في منطقة دير المدينة بالبر الغربي لمدينة الأقصر. وتعد واحدة من النماذج القليلة والنادرة في هذا الشأن. ويعتبر هذ الاكتشاف مهما جدا، وسوف يضيف الكثير في دراستنا للمومياوات المصرية القديمة، ويطلعنا نحن علماء المصريات على العديد من الدلالات الدينية التي وجدت على جسم هذه المومياء المميزة.
ومنذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، قامت هذه المرأة المصرية القديمة بوشم جسدها بالعشرات من الرموز بما في ذلك أزهار اللوتس والأبقار والعيون الإلهية والتي قد تكون مرتبطة بمركزها الديني أو قد تدل على ممارسة هذه المرأة للطقوس الدينية التي قد تخص وظيفتها في الحياة الدينية في مصر القديمة في ذلك العصر. والجميل في الأمر أن هذه الوشوم محفوظة بتفاصيل مذهلة، ومنها ما هو مرسوم على جذعها المحنط. وتمثل هذه الوشوم الأمثلة الوحيدة الباقية والمعروفة عن الوشم المصري القديم على أجساد المومياوات المصرية القديمة وتظهر لنا صورًا مميزة للغاية، بدلاً من التصاميم المجردة التي كان المعتاد رسمها على المومياوات المصرية القديمة في الغالب.
وكانت بداية هذا الكشف المثير لهذه المومياء عندما تم فحص البقايا البشرية في دير المدينة التي كشفتها هذه البعثة، وعندها وجد فريق عمل البعثة، لأول مرة، علامات غير عادية على رقبة مومياء هذه السيدة. وكان الاعتقاد في البداية أن هذه العلامات الموجودة تمثل بعض التمائم على جسم مومياء هذه السيدة. وكان وضع التمائم حول رقبة المومياء قبل إتمام مراسم الدفن ممارسة شائعة في مصر القديمة في ذلك الوقت. لكن مع المزيد من الدراسة لهذه المومياء، تم اكتشاف أن هذه الرسوم التوضيحية القديمة ــ وغيرها على الجسم ــ كانت وشوما مرسومة على جسم المومياء. وتم حصر العشرات من الوشوم، وكان لعدد منها أهمية دينية كبيرة. وعلى سبيل المثال، فإن وشوم الأبقار كانت ترتبط عادة بالإلهة حتحور، مثل الأبقار ذات القلائد الخاصة، ووجدت وشوم أخرى ــ مثل الثعابين الموضوعة على الذراعين العلويين ــ وكانت ترتبط أيضا بالإلهات في مصر القديمة. وتم تزيين رقبة المومياء والظهر والكتفين بصور عيون الأودجات – وهي عيون إلهية مرتبطة بالحماية، مع وضع وشم على الحلق. ومن أية زاوية تنظر إلى هذه المرأة، ترى زوجا من العيون الإلهية ينظر إليك.
وكانت هذه العاملة في منطقة دير المدينة بالبر الغربي لمدينة الأقصر قد أنهت أعمال الدراسات التي تجريها على المومياء المعروفة باسم «المرأة ذات الوشم»، والتي عثر عليها أثناء أعمال الحفائر الخاصة بتلك البعثة في قرية العمال بدير المدينة بالبر الغربي بمدينة الأقصر منذ عدة أعوام وتحديدًا في عام 2014.
والشيء المثير في أمر مومياء هذه السيدة أنها تتفرد بأن هذه المومياء تحتوي على نحو ثلاثين وشمًا، أو «تاتو» كما هو معروف في اللغة الإنجليزية، موجود على أجزاء متفرقة من جسد هذه السيدة المهمة في مجتمع العمال والفنانين بقرية دير المدينة بالبر الغربي لمدينة الأقصر، ومنها، على سبيل المثال، على الرقبة، والظهر، والكتف والذراعين. وقد كشفت الدراسات الأنثروبولوجية التي قامت البعثة بإجرائها على مومياء هذه السيدة أنها كانت تخص امرأة يرجح أنها عاشت خلال عصر الرعامسة وتحديدا في عصر الأسرة التاسعة عشرة في الفترة ما بين عامي 1300 و1070 قبل الميلاد، وكان يبلغ عمرها عند الوفاة ما بين 25 و34 عامًا.
ومن اللافت للنظر أنه لم يتم التوصل إلى الآن إلى اسم هذه المرأة المهمة، أو حتى إلى وظيفتها على وجه التحديد. غير أنه يرجح أنها كانت ذات شأن كبير بسبب أن هناك تنوعا كبيرا ومدهشا في الوشوم التي رسمت على جسدها، فضلا عن اختلاف أشكال هذه الوشوم ما بين صور لزهور اللوتس الشهيرة، وصور لأبقار، وصور لقردة البابون، وصور عين الأودجات ذات القيمة الدينية الكبيرة. وأغلب الظن أن تنوع هذه الوشوم ووجودها بكثرة على جسد هذه المرأة كان بسبب الرغبة في إظهار الدور الديني الرفيع الذي ربما كانت تتولاه هذه المرأة أثناء حياتها الأولى. ومن الجدير بالذكر أن الوشوم التي تم العثور عليها على مومياوات أخرى كانت عبارة عن نقاط بسيطة أو خطوط صغيرة للغاية فقط، ولكن هذه مومياء هذه المرأة تتميز بوجود رسومات لكائنات حقيقية مصورة بشكل لم يسبق له مثيل في التصوير لمثل هذا النوع من الوشوم في مصر القديمة.
وقد استخدم فريق عمل البعثة أحدث التقنيات من الأشعة تحت الحمراء، للكشف عن تفاصيل هذه الوشوم، ويتم حفظ مومياء هذه المرأة الآن في المقبرة رقم TT 291 بالبر الغربي لمدينة الأقصر؛ وذلك حتى يتم الحفاظ على هذه المومياء في نفس الظروف البيئية المحيطة بها منذ دفنها قبل 3300 عام.
وتم اكتشاف هذه الوشوم المعقدة على المومياء في إبريل 2016، وشعر المكتشفون بالصدمة عندما رأوا هذه البقع السوداء أو «الوشوم» موجودة على جسد هذه السيدة منذ 3300 عام إلى الآن، حتى أنهم بكوا من روعة المفاجأة وعظمة الاكتشاف الذي أدخل على قلبهم السرور والفرحة.
ونجح فريق عمل البعثة بفضل البرمجيات الحديثة للتصوير في فحص جلد المومياء حتى يشاهدوا الوشوم اللافتة للنظر، ومع مسح جسد المومياء بكاميرا أشعة تحت الحمراء، وجد الفريق وشوما لم تكن حتى مرئية بالعين المجردة، وكانت بعض أجزاء الجسد سوداء ومغطاة بمادة التحنيط، وكان من المستحيل رؤية الجلد، لذلك تم استخدام الأشعة تحت الحمراء كي يتمكن فريق عمل البعثة من الرؤية من خلال طبقات الجلد.
ويعتبر هذا الاكتشاف جديدًا من نوعه؛ لأنه ينفى ما كان يعتقد فيه العديد من علماء المصريات السابقين من أن الكاهنات في مصر القديمة كن يرسمن على أجسامهن صورا حيوانية، وليس صورًا لوشوم كاملة كما في حالة مومياء هذه السيدة المتفردة. ومن الجدير بالذكر أنه بداخل بعض مقابر المصريين القدماء الخاصة بنبلاء القوم مناظر مصورة على جدران هذه المقابر ومزينة بمناظر وصور لنساء تحمل أجسادهن علامات مماثلة لتلك التي على مومياء هذه السيدة الموشومة، وهذا يثبت أن المصريين القدماء مارسوا الرسم لمثل هذا النوع من هذه الوشوم على مومياوات الفراعنة كما مارسوا الرسم على جدران مقابرهم الجميلة التي تشع بهاء وجمالا يعكس ثقافة المصريين القدماء العظيمة والمحبة للجمال، ويوضح عشق المصريين القدماء للحياة مثل عشقهم للموت الذى كان بوابتهم للحياة الخالدة والأبدية في حقول «إيارو»، أو جنات النعيم، التي لا تبلى أو تفنى بمرور الأزمان وتعاقب السنين والأيام.