بقلم: إدوار ثابت
(7)
ملخص العدد السابق
أحبها رغماً عنه ومن غير أن يتحكم في نفسه ودون أن يدري أو يحتاط فهي متزوجة فها هو قد أحبها حباً ملك على نفسه وسيطر عليه العشق والتاع بحرمانه منها فلم يستطع أن يتحمله ولكنه لا يفعل مثل هؤلاء الذين يتعرضون لمثل هذا العشق مع اختلافهم فهو شاعر والشاعر به ما ليس بعامة الناس فشعره هو الذي يحقق رغبته فيها إن كان لا يستطيع أن يبوح بحبه لها ورغبته فيها وهو الذي يحل ذلك الصراع بين عشقه واشتياقه إليها وبين التياعه وحرمانه منها ينظمه إليها ويوضح فيه حبه وعشقه وما يرغبه فيها ويتمناه منها فكأنما هذا الشعر هو الوسيط المباشر بينهم وبينها والذي يفصح فيه عما به وعما يمسه منها ويراه فيها .
والشاعر الغزلي إذا تغزل فيمن يحب ويعشق فهو ثائر القلب مضطرم الشعور سريع الإحساس حمي النفس ولا سيما إن كانت مشاعره حقيقية فياضة وكان إحساسه ليس متكلفاً أو مصطنعاً ، وهو مستنفر لا يفتر استنفاره مشتد يكره الإذعان فإذا أحب يحب بكل كيانه لا يقصر فيه ولا يضعف وإذا عشق فهو يعشق بجوارحه كلها لا يتوانى فيها ولا يهدأ إن كان يلتاع من حرمان واشتياق فيظل في صراع بينه وبين هذا الحرمان وهذا الاشتياق يبدو ذلك في شعره ويعكسه إحساسه . وإذا هو مع ذلك يأسره اليأس من ناحية ويمسه الأمل من ناحية ثانية وإن كان هذا خيالاً يستشفه ولا يخلو معهما من خجل يعتريه ممن يعشقها ومن الاحجام عن مصارحتها والافصاح لها عما به من العشق وعن رغبته فيها إلا في شعره الذي يوضح فيه تلك الأحاسيس ولكنه يتمنى اللقاء منها حباً له بل ويستدنيه أو يتمثله رغبة منه فيه فإن لم يستطع الحصول عليه فهو يتمناه في شعره الذي يكتبه عنها وإليها . والحب ليس غريباً ولا خيالاً وإنما هو حقيقة لا ريب فيها وأمر لا لبس فيه وهو إحساس خفي يلمس النفوس ويداعب المشاعر فينساب إليها حتى يكمن فيها فيغمر القلب ويتملك الوجدان حتى يسيطر على الكيان فيربط بين العاشق وبين من يعشقها فيثير فيه الحنين إليها والرغبة فيها . وأحاسيس الحب والعشق ليست لغواً ولا دعابة ولا تثير نفوراً ولا ضيقاً وإنما تثير في الناس الاستمتاع وحب الاستطلاع عندما يسمعونها ويقرؤون عنها ترويها القصص والروايات على مر العصور وعند كل الشعوب وتعرضها الاعمال المرئية والمسموعة كالسينما والمسرح والتلفزيون والإذاعة ويتحدث عنها الشعراء في أشعارهم فلا ينفر منها إلا غليظ النفس وفظ الشعور ولا يعجب بها وتستهويه إلا من به حس مرهف وشعور رقيق . وشعر الغزل الذي يتحدث عن الحب ويتغزل فيه الشاعر فيمن يحبها به نمطان : نمط حسي أو قل بلا انكار جنسي لأن الشاعر يتحدث فيه عن مفاتن المرأة التي تروقه ويوضح فيه ما عليها من خصال شكلية ويبرز عناصر الجمال فيما بجسمها أو في بعض أجزاء منه مما تتميز فيه النساء . ونمط عفيف أو قل عاطفي لا يتحدث فيه الشاعر في مضمونه العام عن تلك المفاتن إلا ضمنياً ولكنه يركز فيه على متعة اللقاء ولوعة النأي والحرمان وكان الشعر العربي في عصر بني أمية وغيره يشمل هذين النمطين وشعرائهما معاً فمن أبرز شعراء النمط الحسي عمر بن أبى ربيعة والأحوص ومن أبرز شعراء النمط العاطفي قيس بن الملوح وما كتبه في ليلى وكثيّر وما كتبه عن عزة وغيرهم وهم ما يطلق عليهم العذريون . ولكن من الحق أن نقول وان لا ننكر أن هذا النمط العفيف في الشعر لا يخلو في مضمونه – وإن كان متواريا – من مشاعر حسية ورغبة جنسية فالشاعر الذي يتحدث فيه إنما هو يتحدث عن امرأة تختلف عنه في الجنس وهي بها ما ليس به في الشكل والسلوك وما ينشأ عنهما فإذا ألتقى بها أو رغب في لقائها فهو يشعر بغير شك بلذة عندما ينظر إلى عينيها عندما يدنو منها أو يلتصق بها أو يلمس يدها ويبتهج عندما يسمع منها حديثها فينصت إليه وإلى رنة صوتها فيه بل ويتطلع إلى فمها وهي تلقي ألفاظها وينظر إليها وهي تبتسم وإن بدا في ابتسامتها وفي لقائها الخجل أو الخفر كما يقول علماء اللغة والشعراء القدماء كل ذلك ليس إلا من امرأة لها من المفاتن التي تستهويه ولها معها جنس يختلف عن جنسه فإذا كتب عنها ذلك الشعر فهو يتمثلها أمامه وهو يكتب عنها ويظل في خياله وهو يناجيها شكلها ومفاتنها وإن لم نتشدد فلنقل أن النمطين وإن اختلفا يرتبطان معاً فنكن يكتب شعراً حسياً فهو لا يخلو من عاطفة ومن يكتب شعراً عاطفياً لا يخلو من رغبة جنسية .
والشعر في حقيقته إحساس وصناعة ، إحساس يتملك الشاعر ويسيطر عليه ويثيره ويحسه فيرغب في الإفصاح عنه عن مضمونه فيصنعه بالألفاظ التي ينتقيها وبأسلوبه الذي يشرحه به ، ويشكله في أبيات موزونة مقفاة ويجمله بالمحسنات البلاغية التي تكسب شعره رونقاً وجمالاً فيصدر عنه إيقاع يكاد يشبه إيقاع الموسيقى ، يأتي من الوزن والقافية وجزالة الألفاظ وتناسقها ونمق الأسلوب ورقيه فيطرب له من يقرؤه ويسمعه فلا يقل طرباً ، ولاسيما لمن يهواه عن سماع المقطوعات الموسيقية وإن اختلفت قواعد الإيقاع الحرفية في كليهما . والالفاظ عند الشاعر الغزلي والأسلوب الذي يستخدمه بها ليشرح به احساسه هما الوسيلة التي يرغب بها في أن يؤدي الملامح التي يقصد إليها والتي يرى فيها جمالاً خاصاً يروقه . ولكن أحياناً ما تكون هناك ملامح وحقائق يشعر بها ويهدف إليها فإذا هي تثيره وتحسه على أن يوضحها أو يبرزها ويصبو إلى أن يدل عليها ، ثم يرى أن هناك حقائق خارجية بعضها أو كلها تمنعها ويصعب عليه أن يكشف عنها فلا يقصد إليها مباشرة فينتقي من الألفاظ ما يوحي إليها أو يرمز إليها أو يضمنها تشبيهاً أو استعارة أو غير ذلك حتى تدل عليها أو تنبئ بها فتكون هي الحل بين ما يرغب وبين ما يخشى أو هي الحل بين الرغبة ونقيضها .
والشاعر لا يضحى شاعراً هباءً أو تلقائياً وإنما هو قبل ذلك بفترة تطول أو تقصر يشعر بالرغبة في الحكي ولاسيما إذا أحس بعاطفة تحثه على ذلك وتشتد الرغبة فما أن تتأصل فيه حتى تبدو وكأنما هي نزعة أو غريزة فيسعى إلى الكتابة ليشبعها ولكن لابد له حتى يكتب ما يليق ويصح من أن تكون ملكته اللغوية وحصيلته من معرفة قواعد الشعر قويتين أو على الأقل ملائمتين وقد يسعى إلى تنميتهما بالقراءة والاطلاع ولهذا بقدر ما يكون إحساس الشاعر متأججاً ورغبته في الرواية وملكته اللغوية والشعرية كلها من القوة بقدر ما يكون شعره قوياً ورصيناً بكل ما فيه . ثم هناك أمر يلزم أن يتوفر له ولا يقل أهمية عن احساسه العاطفي ورغبته في الرواية وقدرته على النظم بما يملك من مصادر اللغة وقواعد الشعر وهي الموهبة والقيمة الرئيسية في هذه الموهبة هي الخيال أو المخيلة كما أن الشاعر يستخدم في شعره المجاز والرمز والتشبيه والاستعارة وغير ذلك من المحسنات البديعية وكلها من الخيال أو تنبع منه وهو الأساس في الشعر وبهذا الأساس الذي يرتكز على التخيل وقيمته في الشعر فهو يبرز الأفعال الإنسانية ويوضح الانفعالات النفسية ولهذا يبدو ممثلاً للحقيقة بل يكمن في توظيف هذه الأفعال والأحاسيس المختلفة بالأسلوب الذي يستخدم فيه الشاعر هذه المحسنات فيضمن الحقيقة خيالاً أو يوحي به إلى الحقيقة فالشاعر هو الذي يقدر على أن يدرك ويكشف أسرار القلب وما يضمره من هذه الأسرار عما يصدر من أفعال فيستنبط من المشاعر الإنسانية ما يخفى منها وما يلوح عليها من سلوك ولهذا فهو يوضح بإحساسه الدقيق ما ليس واضحاً بل ما ليس مرئياً أو مفهوماً . ولهذا فالشعر الذي ينبع من الموهبة ويرتكز على الخيال تبدو قوته في القدرة على التمثيل الذي يثير النفس بالأحاسيس والمشاعر التي يفصح عنها ، وهذا يؤدي إلى المتعة العقلية والنفسية عند الشاعر والمتلقي للشعر معاً . والشعر يرتبط بالأشخاص وبالواقع الذي يعيشون فيه ويقرؤه ويسمعه الناس ليلمسوا ما يرونه فيه وهذا الارتباط لا يتحقق ببلوغ الواقع فقط وإنما يبرز ويثير ما يختلف عنه فالشاعر غالباً ما لا يبرز الواقع ويحكيه كما هو ولا يروي الأمور والأحداث كما بدت أو تبدو وإنما يرويها بخلاف ما بدت وبغير ما تبدو بل وبما يمكن أن تكون وتقع بل وبما يحب ويعشق ويشتاق إلى أن تكون وهذا ليس خداعاً منه وإنما هذه هي قيمة الشعر الذي يرتكز على الخيال والذي يستهوى الناس ويشعرون فيه بشئ من اللذة وكأنهم يهربون به من الواقع ولا سيما إذا كان الواقع مرهقاً أما هو مع تلك التي يهواها ويعشقها ويلتاع من حرمانه منها فخياله الخاص به ينحصر معظمه في هذه التي يحبها ويشتاق إليها ، فإذا تغزل في شعره فهو لا يتغزل إلا فيها وإذا كتب فهو يكتب عنها وإليها .
البقية في العدد القادم