بقلم : نعمة الله رياض
في كلّ عصر ومكان، ومنذ بداية التاريخ ، يظهر في الوجود شخص بارع ، يفوق أقرانه، ويُخلّد في تاريخ العلم أو الأدب أو الفنّ أو الصناعة ، بعد ما كان في حياته مغمورا» , لا يعرف عنه شيء، فيصل إلى قمّة الشهرة والنجاح , ويتلألأ كوكبه في سماء الحضارة ، ويضيف سببا» لتقدم البشرية ….
وإستخدام الإنسان لإمكانياته العقلية وقوة ملاحظته للطبيعة وما يجري فيها من أحداث , هي السبب الرئيسي للإختراعات التي تساهم في تقدم البشرية من العصر الحجري وإختراع أدوات الصيد واشعال النار حتي يومنا هذا من إختراعات تسهل جميع صور الحياة علي كوكبنا وغزوه للفضاء والكواكب.. والإنسان بطبعه يسعي لبلوغ القمة في كل المجالات العلمية والأدبيه والرياضية .. نشاهد ذلك حرفيا» في تسلق الجبال حتي بلوغ قممها أو في مسابقات العدو لتحقيق أرقاما» قياسيه في السرعة ..
وفي التاريخ أمثلة كثيرة لقصص عن شخصيات نابغة تستحق الإعجاب ساهمت إنجازاتها في تقدم البشرية .. لنبدأ بقصة الطالب / أحمد المولود بمدينة دمنهور , وقد تربي في أسرة عادية وحصل علي شهادة الثانوية العامة والتحق بكلية العلوم جامعة الإسكندرية حيث حصل علي بكالريوس العلوم بامتياز مع مرتبة الشرف وعمل معيدا في الكلية وحصل علي درجة الماجستير في علم الضوء, وفي منحة دراسية فى الولايات المتحدة جامعة بنسلفانيا حصل علي الدكتوراة في علم الليزر..إلي هنا كانت مسيرته عادية وإجتازها كثير من زملائه المبعوثين للدول المتقدمة وعادوا إلي وطنهم ليصبح معظمهم معلمين للأجيال الجديدة من الطلبه الجامعيين , ينقلون لهم أحدث ما وصل اليه العلم .. لكن الدكتور أحمد حسن زويل , وهذا إسمه كاملا , التحق للعمل كباحث في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا , وهو من أكبر الجامعات في الولايات المتحدة , وترقي فيه حتي أصبح الأستاذ الرئيسي لعلم الكيمياء به .. أبتكر الدكتور زويل أثناء أبحاثه كاميرا فائقة السرعه تعمل بالليزر تسجل حركة الذرات داخل الجزيئات عند نشوئها والتحامها أثناء التفاعلات الكيميائية , والوحدة الزمنية التي تلتقط فيها الصورة هى الفيمتوثانية وهي جزء من مليون مليار جزء من الثانية .. أحدث هذا الإكتشاف ثورة في علم الكيمياء , والعلوم المرتبطة به , واستحق أن يفوز بجائزة نوبل في الكيمياء في عام 1999 ..
وفي قصة أخري لنابغة معاصر إسمه مجدي يعقوب المولود في مدينة بلبيس الذي درس في كلية الطب جامعة القاهرة ُثم درس في شيكاغو بالولايات المتحدة ومنها إلي بريطانيا حيث تخصص في معالجة أمراض القلب وبرع في عمليات زرع القلب , وقاد فريق بحثي في تطوير صمام للقلب باستخراج خلايا جذعية من العظام وتطويرها إلي أنسجة في بيئة من الكولاجين تحولت فيها إلي صمام قلب طوله 3سم .. يتوقع الدكتور مجدي انه خلال عشر سنوات سيتم زراعة قلب بالكامل بإستخدام الخلايا الجذعية ..وقد منحته ملكة بريطانيا لقب فارس عام 1966..
وفي قصة أخري , وليست الأخيرة , لنابغة يعتبر قدوة في التحدي والصبر ومقاومة المرض, حصل ستيفن هوكينج علي درجة الشرف الأولي في الفيزياء من جامعة أكسفورد , وعلي الدكتوراه في علم الكون من جامعة كامبريج ..وأثناء ذلك أصيب بمرض العصب الحركي عندما كان عمره 21 سنة , سبب له الشلل التدريجي, وتنبأ الأطباء بأنه لن يعيش سوي لعامين آخرين , لكنه واصل العطاء العلمي حتي وفاته عن عمر يناهز 76 عاما».. وقد عاش السنوات الأخيرة من عمره علي مقعد متحرك , وتدهورت قدرته علي التحدث , وقد طوّر ستيفن أساليب بصريّة تعويضيّة، بما في ذلك رؤية المعادلات .بمنظور هندسي ليتمكن من مواصلة عمله.. كانت لهوكينج أبحاث في العلاقة بين الثقوب السوداء والديناميكا الحرارية , وقد أثبت نظريا» أن الثقوب السوداء تصدر اشعاعا» , عكس كل النظريات المطروحة أنذاك , وسمي هذا (إشعاع هوكينج) ..وقد طور نظرية اللاحدود للكون التي غيرت التصور القديم عن لحظة الإنفجار العظيم , ونشر كتابه المشهور ( تاريخ موجز للزمان) وزع منه أكثر من مليون نسخة .. حصل علي العديد من الجوائز أبرزها قلادة البرت اينشتاين , ميدالية الجمعية الفلكية البريطانية وجائزة وولف للفزياء .
وقد تظهر مبكرا» علامات النبوغ في شخص وهو ما زال صغيرا» في السن, مثلا» البرت اينشتاين , صاحب النظرية النسبية العامة, فرغم تأخره في الكلام حتي الثالثة من عمره , إلا انه تعلم بنفسه وهو لا يزال في الثانية عشر من عمره , علمي الجبر والهندسه خلال أجازة صيف واحدة , وكانت له مقدرة رياضية عالية جدا جعلت من الصعب علي معلمه الإستمرار في تدريسه.. وقد درس بنفسه أيضا حساب التفاضل والتكامل وهو في الرابعة عشر من عمره .. وغير بعيد عن القاهرة في مدينة ملوي حصلت التلميذة جاسيكا مجدي علي لقب أصغر عالمة رياضيات عربية وعمرها لم يتعدي الخامسة عشر من عمرها لإكتشافها طرقا» جديدة لإيجاد مساحة المكعب، وفي متوسطات المثلث القائم الزاوية، وأفكار جديدة لتطابق المثلثات.وجميع هذه الطرق الجديدة تعرضت للاختبار من المتخصصين في الرياضيات ، وثبت إن فكرها منطقى تحليلى منظم ..وأتذكر بينما كنت حاضرا» لمحاضرة في الرياضيات في قسم الكهرباء بكلية الهندسة , أن وقف طالب إسمه عمرو وقال للمحاضر إنه يشعر أن المعادلة الأخيرة مبنية علي فرض خاطئ , وذهل المحاضر من ملاحظة الطالب وتوقع له مستقبلا» باهرا», وفعلا حصل هذا الطالب علي الدكتوراه فيما بعد وسافر للخارج لإستكمال دارساته …
يتحمّل الشخص النابغ المشاقّ والصعاب على نحو خارق للعادة .ويصل الشخص إلي النبوغ نتيجة للدقّة في إدراك الحقائق أعمق ممّـا يراه الآخرون ,ومثال ذلك مشاهدة إسحق نيوتن للتفاحة وهي تسقط واكتشافه للجاذبية , وملاحظة جيمس وات لغطاء الغلاية وهو يرتفع لإعلي بفعل البخار . ولا بدّ للمجتمع أن يوفر الظروف لظهور النابغة ، كالامكانيات المادية والمعملية والتفرغ الكامل.. ويعيش النوابغ غالبا» حالة من العزلة عن الناس ، وكثيرآ ما لا يعرف قدرهم في حياتهم ، ولكن عدم اعتناء الآخرين لا يثبط عزائمهم ، بل دائمآ هم في خضم العمل ، بكلّ إخلاص ، فإنّهم يعيشون ليس لإنفسهم , بل للأجيال القادمة ، والنوابغ لما عندهم من الفكر العملاق, يقضون حياتهم المعاشيّة بلا غرض ، وأحيانا» يصابون بالعجز في إدارة أنفسهم حتّى في أعمالهم الشخصيّة ، وقد يصدر منهم ما يضحك الآخرون حتّى ينسب إليهم الجنون, فبالهم مشغول في كشف أسرار الكون ، وينسون أنفسهم ، وينكرون الذات ..
قد يكون النبوغ نتيجة لوجود مرض أو عجز جسماني ، فيعمل علي تشغيل قوى مخه بأقصي ما يمكنه في العلم أو الفنّ ، فهذه هيلن كلر العمياء الصمّاء الخرساء التي نبغت في عصرها، وهذا بتهوفن الذي نبغ في الموسيقى وهو أصمّ ، وهذا طه حسين الذي أصيب بالعمي منذ صغره , لكنه أصبح من قمم العلم والأدب , وكما رأينا في الزمن القريب , نبغ ستيفن هوكينج بانجازاته المبهرة بالرغم ما عاناه من مرض أقعدة وأفقدة القدرة عن الكلام .. كما نبغ جون ناش رغم إصابته بمرض فصام الشخصية الإرتيابي ,وتصرفاته الغريبه التي أثارت ضحك تلاميذه في الجامعه ,وتخيله ان زميلا» لا وجود له يكلمه في الغرفة , لكنه توقف عن تناول الأدوية وشفي , وبقوة إرادته , واصل أبحاثه في الرياضيات , وتم ترشيحه لجائزة نوبل ..
النابغون لا يكتفون بدراسة أقصي ما وصل إليه العلم , بل يطورون ويخترعون ويبتكرون نظريات وطرق جديدة تصل بالبشرية إلي آفاق أعلي وأسمي ..
النابغون كالقاطرة تندفع إلي الأمام تجر باقي عربات القطار , وبها باقي الركاب ..
أو هم كالشمس والنجوم , نورها من ذاتها ، وباقي الناس كالكواكب , نورهم من غيرهم ….