بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
درجت عدة دول، وفي طليعتها الولايات المتحدة، كما درجت منظمات دولية، وفي طليعتها الأمم المتحدة، على فرض عقوبات اقتصادية وسياسية على دول لأسباب مختلفة، منها لمنعها من تطوير برامج نووية، أو بحجة رعاية الإرهاب، أو لاحتلال دولة أخرى، أو لاي سبب أو حجة أخرى، والغاية من هذه العقوبات إرغام المسؤولين في الدولة المعاقَبة على تغيير سياستهم.
ولكن هذه العقوبات، كما سنبين لاحقا، لم تنجح في حمل الحكومات المعنية على تغيير سياساتها، بل كل ما نتج عنها هو خلق صعوبات اقتصادية ومالية لشعوب هذه الدول، بينما الحكام يستمرون في تمتعهم بالبحبوحة ورغد الحياة.
فيما يلي ، وباختصار كبير، أهم الدول التي تعرضت للعقوبات، وفق التسلسل الزمني لفرض هذه العقوبات.
1- كوريا الشمالية
فرضت الولايات المتحدة عقوبات على كوريا الشمالية في العام 1950 بعد أن قصفت هذه الدولة جارتها كوريا الجنوبية حليفة الولايات المتحدة، ثم ازدادت وتيرة العقوبات لاستمرار كوريا الشمالية بتحدياتها لقرارات العقوبات حيث وصلت الولايات المتحدة الى اعتبارها دولة راعية للإرهاب عام 1988.
أيام الرئيس الأميركي بيل كلينتون، تم تخفيف العقوبات عن كوريا الشمالية بعض الشيء حيث بدأت الإدارة الأميركية سياسة انفتاح على هذه الدولة، ولكن بسبب استمرار هذه الأخيرة في تطوير برنامجها النووي وانسحابها من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، تم إعادة فرض العقوبات عليها مع إضافة عقوبات تصعيدية في مجالات التجارة والعمليات المالية والمصرفية والسفر، كل ذلك في سبيل حمل هذه الدولة على تغيير سياستها، ولكن بالرغم من هذه العقوبات التي أدت الى عزلة كبيرة لكوريا الشمالية وصعوبات جمة لشعبها، فإن هذه الدولة لم تكتف بالإستمرار في سياساتها رغم العقوبات، بل زادت من تحدياتها للولايات المتحدة وللمجتمع الدولي عبر القيام بتجارب نووية متتالية، وقد ضربت عرض الحائط بالعقوبات المفروضة عليها في سبيل المضي في طريق تحقيق طموحاتها النووية.
2- إيران
بدأت الولايات المتحدة بفرض عقوبات على إيران عام 1979 عندما قام طلاب إيرانيون باحتلال السفارة الأميركية في طهران واحتجاز رهائن بعد تأسيس الدولة الإسلامية، ثم زادت وتيرة العقوبات الأميركية لاعتبار إيران دولة تدعم الإرهاب في خلال ثمانينيات القرن الماضي. وعندما بدأت إيران بتخصيب اليورانيوم، فرض عليها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عقوبات على الإستثمارات في مجال البترول ومشتقاته، والعمليات المصرفية والتأمين، ومجالات اقتصادية اخرى، في الوقت الذي كانت تدعي فيه إيران أن برنامجها النووي هو لغايات سلمية بحتة.
ونتيجة لتوقيع الإتفاق النووي الذي كان من شأنه وضع حد لتخصيب اليورانيوم، رُفعت معظم العقوبات في مطلع عام 2016، ولكن بعد سنتين من ذلك، قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بصورة أحادية، سحب الولايات من هذا الإتفاق وإعادة فرض العقوبات على إيران مع إضافة عقوبات جديدة بصورة تصاعدية.
هذه العقوبات أضرت كثيرا بالإقتصاد الإيراني، ولكن إيران لم تغير سياستها النووية نتيجة للعقوبات، بل سبق لها أن وافقت في العام 2015 على وضع حد للتخصيب تطبيقا للإتفاق النووي وليس رضوخا للعقوبات. وما نشاهده الآن من صعوبات في طريق مفاوضات العودة الى هذا الإتفاق، واستمرار إيران بتخصيب اليورانيوم، جعل كثيرين يعتقدون أن إيران لن تعود الى الإتفاق وستستمر بالتخصيب وصولا الى تحقيق أهدافها بأن تصبح دولة نووية، غير سائلة عن العقوبات، على غرار ما فعلته كوريا الشمالية منذ عقدين من الزمن.
3- العراق
بعد اجتياح العراق للكويت في منتصف عام 1990، فرض مجلس الأمن عقوبات مالية وحظرا تجاريا على العراق، وقد كانت الغاية من هذه العقوبات إرغام الرئيس العراقي صدام حسين على الإنسحاب من الكويت، ودفع تعويضات عن الخسائر التي سببها هذا الإجتياح، والتخلي عن أسلحة الدمار الشامل الذي كان العراق متهما بحيازتها. ليس خافيا على أحد أن الإنسحاب العراقي من الكويت لم يحصل نتيجة للعقوبات، بل بعد أن شنت الولايات المتحدة حربا على العراق أجبرت بموجبها الرئيس العراقي على الإنسحاب، ولكن الولايات المتحدة بعد ذلك فرضت على العراق عقوبات قاسية للغاية سواء في ما يتعلق باستيراد المواد الغذائية أو بتصدير النفط وغير ذلك، من أجل إرغام العراق على تغيير سياسته خاصة فيما يتعلق بعلاقة الدولة العراقية مع الأكراد، ولكن لم تنفع تلك العقوبات في تغيير السياسة العراقية، ولم يسقط صدام حسين إلا بعد ما عرف ب “حرب الخليج الثانية” حيث شنت الولايات المتحدة حربا جديدة على العراق عام 2003 واحتلت العاصمة بغداد.
بعبارة أخرى، لم تتمكن الولايات المتحدة ولا الأمم المتحدة من إرغام العراق على تغيير سياسته ومواقفه عبر تطبيق نظام قاس من العقوبات، ولكن فقط عبر شن حرب شاملة على هذا البلد.
4- سوريا
في شهر آذار/مارس من العام 2011 بدأت تحركات في الشارع السوري تطورت الى مطالبات بتغيير النظام، وقد جوبهت هذه التحركات بالقمع الشديد من قبل الحكومة ما جعل الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وأوستراليا وسويسرا وجامعة الدول العربية تفرض عقوبات اقتصادية وقيودا على سوريا لحملها على تغيير سياستها القمعية تجاه التحركات في الشارع، علما أنه سبق للرئيس الأميركي جورج بوش الإبن أن فرض في العام 2004 عقوبات على النظام السوري، متهما إياه برعاية الإرهاب والإستمرار في السيطرة على لبنان وأمور أخرى.
العقوبات والقيود الدولية طالت أيضا الرئيس بشار الأسد وعددا غير قليل من معاونيه، علما أن مجلس الأمن لم يتمكن من فرض أية عقوبات على سوريا بسبب الفيتو الذي مارسته كل من روسيا والصين.
وقد حاولت ادارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تشجيع الثوار في سوريا على الإطاحة بنظام الرئيس الأسد عبر دعمهم بالسلاح بالإضافة الى العقوبات القاسية التي فرضتها على الحكومة السورية والرئيس الأسد. معروف أن حملة العقوبات القاسية التي بدأها الرئيس أوباما عام 2011 لم تصل الى أية نتيجة إذ أن الرئيس الأسد ما زال على رأس الدولة بعد أحد عشرة عاما من بداية هذه العقوبات، وحكومته ما زالت تتبع السياسة نفسها، رغم العقوبات والقيود الدولية المفروضة عليها.
5- روسيا
تخضع روسيا حاليا لنظام من العقوبات مفروض عليها من قبل الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ومجموعة الدول السبع، وتعتبر هذه العقوبات من أقسى ما تم فرضه على أية دولة، وقد فرضت هذه العقوبات على أثر اجتياح روسيا لأوكرانيا في الرابع والعشرين من شهر شباط/فبراير من هذا العام، وتصاعدت وتيرتها لتشمل عقوبات إضافية على أشخاص وشركات قريبة من الرئيس بوتين، وكل ذلك في سبيل حمل روسيا على وقف حربها على أوكرانيا والإنسحاب منها. ولكن بالرغم من جميع هذه العقوبات والقيود القاسية جدا، ما نراه هو ليس فقط استمرار روسيا في عدوانها على أوكرانيا، بل أيضا قصف المدن الآهلة بالسكان، وتدمير البنى التحتية خاصة معامل توليد الكهرباء ونحن الآن على أبواب فصل الشتاء وما يرافقه من برد قارس وحاجة للطاقة في سبيل التتدفئة.
من هذه الأمثلة المختصرة عن العقوبات الدولية التي تُفرض على بعض الدول، من الواضح أن هذه العقوبات لا تجدي نفعا للدول التي تفرضها، وهي تؤدي الى أضرار وخسائر كبرى لشعوب الدول المستهدفة من تلك العقوبات دون تحقيق الأهداف المرسومة لها، على غرار ما شاهدناه في حينه في العراق من زيادة كبرى في الوفيات، وخاصة وفيات الأطفال، نتيجة للقيود التي كانت مفروضة على استيراد المواد الغذائية. ونظرا لعلم الدول، من التجارب السابقة، بعدم جدوى تلك العقوبات على الحكومات المعاقبة، لماذا الإستمرار في فرضها وزيادة وتيرتها في كثير من الأحيان؟
لا شك أن أحد الأسباب الذي يحمل دولا مثل الولايات المتحدة على فرض عقوبات على أخصامها هو شعورها بضرورة التحرك تجاه نشاطات غير مقبولة من قبل حكومات هذه الدول، ولذلك فهي تجد نفسها مضطرة الى اتخاذ موقف علني وواضح تجاه هذه الحكومات، سواء لأسباب مبدئية خشية اتهامها بعدم التحرك أمام أعمال ونشاطات غير مقبولة، أو أيضا كي لا تتهم بغض النظر أو حتى التواطؤ والمشاركة في مثل هذه الأعمال.
ولكن هنالك سبب أهم من ذلك وهو أن الدولة التي تفرض عقوبات تأمل أن يؤدي التردي الإقتصادي في الدولة المعاقبة الى تحركات من قبل الشعب ضد حكومته أو الى ثورة تطيح بالمسؤولين، وهذا ما كانت تأمله الولايات المتحدة والدول الغربية من عقوباتها القاسية على روسيا وعلى الدول الأخرى المذكورة أعلاه. إلا أن شيئا من ذلك لم يحصل وهذا ما يثبت نظرية عدم جدوى العقوبات لتغيير سياسة ومواقف دولة ما، ولكن تبقى العقوبات نافعة فقط عندما تطال أفرادا، إذ تعرقل هذه العقوبات تحركاتهم الدولية ومصالحهم المالية.