بقلم: المطران ميلاد الجاويش
تَوالي السنين يُرعبني إن عشتُ سِنيَّ خارج مدار ربّي الذي خلقني. أمّا إذا قضيتُها في حبّه ومخافته، فالبارحة لي مثل اليوم، واليوم كالغد. في الحبّ يتلاشى الزمن، يغدو عندها مطيّةً للعشق الإلهيّ. «الحبّ بيقتل الوقت»، تغنّي فيروز الرائعة.
همٌّ أوحد كان يؤرّق القدّيسين: ألاّ تفلتَ منهم برهة من غير أن يملأوها حبًّا لله والقريب. كانت القدّيسة تريزيا الطفل يسوع تردّد: «حياتي ليست إلاّ لحظة أو ساعة عابرة… حياتي ليست غير يوم واحد يفلتُ منّي ويهرب… تعرف ذلك يا إلهي! فلكي أحبّك على الأرض ليس لي إلاّ اليوم». نعم، ليس لنا إلاّ «اليوم»، بدقائقه الأشدّ رتابةً، كي نبادل مَن خلقنا الحبّ.
في رأس السنة، يحتفل الناس بتوالي الزمن. يهتفون، يغنّون، يتعانقون، يشربون ويسكرون… ربّما كي يتناسوا جَرْيَ العمر وبأنّهم فانون. أخالهم يتحدّون قدريّة محدوديّتهم بالهزج والمرج والمرح. بالنسبة إليّ، في ليلة رأس السنة يكبر الزمن سنة، والأبديّة تقترب سنة. كنتُ ممّن يظنّون أنّ وقت الرحيل بعيدٌ جدًّا، وأنّ العمرَ لن يطوي أشرعتَه باكرًا، فإذ بي أمام أبواب الأبديّة، ولو من بعيد. أرى طفلًا صغيرًا، فأقول في نفسي: عندما يبلغ هذا الطفل سنّ الأربعين، أكون قد رحلت عن هذه الفانية. لم يبقَ من العمر إلاّ نصفه. الوقت يمرّ والسنون تتوالى. مَن كان طفلاً هو اليوم شابّ. ومَن كان شابًّا هو اليوم كهل. ومَن كان كهلًا هو اليوم على حافّة الوداع.
في قدّاسنا، أتوقّف غالبًا عند الطلبة التي ندعو فيها «أن تكون أواخر حياتنا مسيحيّة سلاميّة بلا وجع ولا خِزيٍ وأن نؤدّي جوابًا حسنًا لدى منبر المسيح الرهيب». يا لها من طلبة رائعة، غاية في النضج الإيمانيّ! ترجو الطلبة أن نقضي أيّامنا الأخيرة بكرامة، بلا وجع ولا عار الشيخوخة المرّة، وأن نمثل أمام الله ونحن مُكلَّلون بكرامة المحبّة. هذا إكليل لا يذوي وجائزة ما بعدها جائزة!
فطوبى لمن الأبديّة أمام عينَيه ليل نهار!