بقلم: د. خالد التوزاني
لقد أبلى المغاربة البلاء الحسن في مقاومة المستعمر وكتبوا بدمائهم أروع النماذج التي بقيت محفورة ليست في الأرض أو الجبال التي شهدت المعركة، وليست محفورة في ذاكرة أحفاد الشهداء المغاربة، بل محفورة أيضاً في ذاكرة وتاريخ المستعمر الفرنسي الذي لم ينس هزيمته النكراء في هذه المعركة. ويتعلق الأمر بمعركة بوغافر.
وقعت هذه المعركة بين فجاج وقمم جبال “صاغرو” جنوب شرقي المغرب، وعلى جوانب أوديتها مقابر جماعية، هي خير شاهد على ما ارتكبه الجيش الفرنسي وأعوانه من جرائم بشعة، وقتل جماعي يرقى إلى مستوى جرائم الإبادة الجماعية، بمختلف أنواع الأسلحة بحق قبائل “أيت عطا”.
جاءت هذه الجرائم بعد معركة شرسة وغير متكافئة، دارت رحاها من 13 فبراير إلى 26 مارس من عام 1933، بين مقاتلين مغاربة متطوعين بأسلحة بسيطة في مواجهة جنود فرنسيين غزاة مدججين بأحدث الأسلحة الفتاكة من رشاشات وطائرات حربية وقنابل ومدفعية، ومئات المرتزقة والجواسيس .
عندما فشلت القوات الفرنسية في إخضاع سكان هذه المناطق الجبلية، عمدت إلى فرض حصار على المنطقة، ومع استمرار المقاومة، بدأت هذه القوات الأوروبية في تدمير وحرق المحاصيل الزراعية وقطع الطرق وتخريب المسالك، وهي ما عُرِف بسياسة الأرض المحروقة لتجويع الأهالي ودفعهم للاستسلام والرضوخ للاستعمار. إلا أن هذه المحاولات لم تنجح بسبب قوة صبر المقاومين المغاربة في جبل بوغافر.
وبعد 42 يوما من القتال، خسرت القوات الفرنسية أفضل ضباطها ومنهم القبطان “هنري ديليسبيناس دو بورنازيل”، وبلغ عدد قتلاها حوالي 3500 عسكري من بينهم حوالي 10 ضباط ومئات من المجندين، بينما بلغت حصيلة شهداء آيت عطا في هذه المعركة 1300 شهيدا، وأكثر من 4000 مدني أغلبهم أطفال وشيوخ ونساء.
وإثر حصار دام 22 يوما، تسبب في وفيات في صفوف الأطفال والشيوخ، لم يكن لهذا الوضع أن يحبط من عزيمة المجاهدين وينال من صمودهم إلى أن قرر المستعمر الدخول في حوار مع القبائل الثائرة في 24 مارس 1933، وعقد هدنة معها وفتح باب المفاوضات، قبل التوقيع على اتفاقية بين الطرفين.
فما هي تفاصيل معركة بوغافر؟
بعدما تمكّن الاستعمار الفرنسي من إخضاع جل مناطق المغرب، إثر توقيع عقد الحماية سنة 1912 و إلى حدود سنة 1933، لم تنجح القوات الاستعمارية الفرنسية في فرض سيطرتها على سكان الجنوب الشّرقي، وخاصة منطقة صاغرو، التي تتمركز بها قبائل آيت عطا الأمازيغية، غير الخاضعة لسلطة الاحتلال الفرنسي وقتها.
أحسّت فرنسا بإهانة شديدة، وبأن المقاوم عسو أوبسلام الذي يجمع القبائل الأمازيغية حوله، يمرّغ كرامة الجيش الفرنسي في وحل صاغرو، ويعرّض الجيوش الفرنسية للهجمات المباغتة وللخسائر الفادحة. مما دفع فرنسا إلى المراوغة بما سمّته “تهدئة صاغرو”؛ والحقيقة أنّ الأمر… كان بمثابة جرائم ضدّ الإنسانية، استعملت فيها ترسانة هائلة من الأسلحة والعتاد للضغط على المقاومة المغربية.
من هو عسو أوبسلام الذي قاد قبائل آيت عطا في معركة بوغافر؟
ولد عسو أوبسلام سنة 1887، وانتخب شيخاً لقبيلة إلمشان في ربيع 1919.
ولشجاعة هذا المقاوم المغربي، فقد نظر إليه الاستعمار الفرنسي نظرةً أسطورية، حيث يقول عنه القبطان مونت دو ماساف رجل “ذو قامة ضخمة، ونظر نفّاذ. عينان صغيرتان سوداوان براقتان ماکرتان، تظهران وكأنهما تسحرانك. يعرج برجله اليسرى نتيجة إصابته بجرح في المعركة. يتكلّم قليلاً، لكن كلامه كان مدعما بالحجج والبراهين”.
ويقول القبطان الفرنسي جورج سبيلمان، الذي شارك في المعركة: الأخوان عسو وباسو أوبسلام هما زعيما إيملشان الثائران، ومحركا مقاومة هذه الكتلة المركزية، بل يصل تأثيرهما أيضاً إلى مجموعة آيت إيعزا وآيت أونبكي، والحاصل أن كل شيء ينذر بمقاومة قوية في أرض ذات طبيعة جبلية، تساعد كثيراً على الدفاع وتحُول دون نشر قوات مهاجمة ضخمة”.
وفي أواخر مارس، قرر عسّو وقف المعركة، حقنا للدماء لا غير، وحفاظاً على حياة ما تبقى من النساء والشيوخ والأطفال في أعالي جبل بوغافر.
ومن الطرائف التي وقعت حسب الوثائق التي أرخت لهذه الواقعة، أنه في اللّحظة التي حين نزل فيها عسو عند الفرنسيين، لم يتخلص من بندقيته حينها كما أمره بذلك الجنرال الفرنسي هوري Huré ، أخد فرنسي آلة تصوير، وبدأ يصوّبُ عدستها نحو عسّو ورفاقه ليلتقط صورة تؤرخ لصف من الرجال يضعون أسلحتهم قرب ضریح خويا ابراهيم في منخفض إمساعدن.
فجأةً، وجّه عسو وباسلام بندقيته تجاه صاحب الآلة العجيبة، وكذلك فعل سبعة من رفاقه ممن ما يزالون يحتفظون بأسلحتهم.
وأغلب الظّن أن بندقية عسو كانت فارغة من الرصاصات. حيث خاطبه الجنرال هوري، وترجم الشاوش حميدة الدمناتي كلامه مخاطبا عسو:
يا أوبسلام، أَمَا تزالُ تصر على المواجهة والقتال؟ وليس من شيم المسلمين الغدر والخيانة”.
ردّ عسو: “رجلكم هذا (وأشار لحامل آلة التصوير) هو الذي بدأ بتصويب سلاحه تجاهنا، ولا يمكن أن نبقى مكتوفي الأيدي ولو كلفنا الأمر حياتنا”.
لم تعد لعسو، الذي فقد ابنه يوم 28 فبراير 1933، أي ثقة بالجنود الفرنسيين حينها، فهم أنفسهم الذين جرحوه يوم 12 مارس في المعركة، وفي 13 مارس قتلوا شقيقه، بحسب وثائق الاستخبارات الفرنسية الموجودة بالأرشيف الفرنسي.
لم تكن المعركة، متكافئة القوى، كان القتال مرادفاً للخَسارة، وإن كانت هناك انتصارات طفيفة تمرّغ أنف فرنسا في التّراب.
بركونه للهدنة، قدّم عسو وبسلام سمعته كقربان بين المعارضين من قبائل آيت عطا؛ إذ بلغت تداعيات الهدنة تلك حدّ اتهامه بالخيانة.
وأمام هذا الارتداد، وحقناً للدماء، وحفاظاً على حياة من تبقى، قرر الأخوان أوبسلام أخيراً، التفاوض يوم 24 مارس. وفي الغد، استسلم آخر المدافعين عن بوغافر. وقد تمّ إحصاء المستسلمين بنحو 490 أسرة تمثل 2900 شخصاً، مسلحين ب 195 بندقية ذات طلقات سريعة و174 بندقية .
طيلة الأيام التي تلت وفاة القبطان بورنازيل، عاش سكان بوغافر أكبر حمام دم يمكن تخيّلهفي منطقة شمال إفريقيا، حيث مارس الاستعمار الفرنسي إبادة جماعية من صنف جرائم الحرب؛ تورد مؤلفات بعض الضباط الفرنسيين أنفسهم جوانباً منها.
لمّا انتهت المعركة، عاد كلّ مقاوم ببوغافر إلى دواره الأصلي إن كان من المستقرين، أو إلى مناطق انتجاعه إن كان من الرحل، يبحث عن مرعي لما تبقى من ماشية لم تهلك بسبب العطش والقذائف.
وأخيراً في الذكرى التسعين لهذه المعركة البطولية، معركة بوغافر، تكشف عن صفحات مشرقة من سجل المقاومة المغربية لقبائل آيت عطّا الأمازيغية.
ومن المؤكد أن الوثائق الفرنسية التي أرّخت للمعركة، تتضمن تفاصيل كثيرة، نجهلها اليوم، ولكن ينبغي السعي لاسترجاع هذا الأرشيف لأنه يهم تاريخ المغرب بالدرجة الأولى، تاريخ صمود وصبر وكفاح وعزة، أما بالنسبة لفرنسا فهو تاريخ ذل ومهانة واحتقار، لأنها تسببت في قتل الآلاف من المغاربة.
ينبغي استلهام العبر من هذه المحطات التاريخية ودراستها؛ والاستفادة منها، و خاصة في تعريف الشباب والناشئة بأمجاد أسلافهم وآبائهم، فيزيد منسوب الحماس الوطني، وينمو الفعل التشاركي من أجل تنمية هذه المناطق؛ وإخراجها من دائرة الفقر بكل صوره وأشكاله.
لقد اختلط الجهاد الوطني بروح المبادرة وبروح التضحية، كما اختلط أيضاً بتلك الإرادة الصلبة التي لا تلين لأنها تأسست على اليقين في نصر الله، ويتواصل اليوم جهاد المغاربة بشكل آخر في ترسيخ التنمية والتحديث وراء أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين محمد السادس نصره الله وأيده.