بقلم: د. حسين عبد البصير
وكان بناء المقبرة الملكية يبدأ عند تولي الملك عرش مصر. وعلى سبيل المثال، قال هيرودوت إن بناء الهرم الأكبر بالجيزة استغرق حوالي عشرين عامًا وعشرة أعوام للطريق الصاعد، على عكس الحقيقة التي أوضحتها لنا برديات وادي الجرف حديثًا. وفي عصر الدولة الحديثة، ونظرًا لتولي بعض الملوك الحكم وهم كبار في السن، فقد كانوا يزيدون من عدد العمال العاملين في مقابرهم حتى يتم الانتهاء من العمل بها في أسرع وقت ممكن. فعلى سبيل المثال، قام الملك رمسيس الرابع بزيادة عدد العمال العاملين في مقبرته من ستين عاملاً إلى الضعف إلى مائة وعشرين عاملاً، وكذلك قام بتقليل تصميم مقبرته. وبناءً عليه، فقد تم الانتهاء من مقبرته بشكل أساسي وضروري عندما مات الملك رمسيس الرابع بعد أن حكم مصر لمدة ست سنوات فقط بعد أبيه الملك رمسيس الثالث، آخر فراعنة الدولة الحديثة العظام، والذي حكم مصر فترة طويلة تبلغ حوالي اثنين وثلاثين عامًا بعد أن تم اغتياله في نهاية حياته، ولولا اغتياله لعمّر في حكم مصر أكثر من تلك المدة. وفي المقابل، نجد عددًا من الملوك الذين قاموا باتخاذ مقابر غير منتهية تخص سابقيهم، وكانت على وشك الاكتمال، فقاموا بتزيينها على أفضل ما يكون. ومن بين هؤلاء الملوك نذكر الملك آي والملك رمسيس السادس. وعلى العكس تمامًا كان الملك سيتي الأول الذي كان العقد الذي حكم فيه مصر كافيًا كي يتم الانتهاء من بناء وتزيين مقبرته، المقبرة 17 في مقابر وادي الملوك، كما يحب أن تكون، غير أنه تم ترك حجرة واحدة غير مزينة في مقبرته، وتم تنفيذها بالخطوط فقط. وفي مقبرة الملك رمسيس التاسع، يمكننا أن نرى كيف تغيرت جودة الزخرفة في المقبرة بشكل ما مما جعل الفنانين يسرعون في الانتهاء من العمل في مقبرته بأقصى سرعة ممكنة.
بناء المقابر
كان بناء المقابر عملاً عظيمًا وكان يتطلب إدارة كبيرة وكانت معقدة للغاية في مصر القديمة. وتأتي معلوماتنا عن ذلك الأمر من آثار العمال الذين قاموا ببناء تلك المقابر والمباني العظيمة مثل الأهرامات والمقابر الملكية في الجيزة واللاهون ووادي الملوك والعمارنة. وهناك تجمعان كبيران للعمال بناة الأهرام كمقابر ملكية في الجيزة واللاهون بالقرب من هرم الملك سنوسرت الثاني.
ومن المؤكد أنه كانت هناك تجمعات عمالية أخرى مثل التي اكتشفتها حديثًا البعثة المصرية في منطقة وادي الملوك بالبر الغربي للأقصر، المعروف باسم «وادي القرود»، والموجود إلى الشرق منه وادي الملوك الشهير الذي توجد به حوالي 60 مقبرة، منها مقبرة توت عنخ آمون. وقد اكتشفت البعثة تجمعات لأكواخ العمال وبعض من أدواتهم التي كانوا يستخدمونها في بناء وتزيين مقابر وادي الملوك الملكية من عصر الدولة الحديثة. وكان من بين الاكتشافات الأثرية المهمة العديدة التي قامت بها البعثة العثور على منطقة ورش للتصنيع لأول مرة بوادي القرود، وبجوارها حفرة للتخزين أخذت رقم KVT وتم الكشف أمامها عن فرن حرق الفخار والمعادن حيث عُثر بجواره على خاتمين من الفضة، وكميات كبيرة من العناصر الزخرفية المستخدمة في تزيين التوابيت الخشبية في الأسرة الثامنة عشرة ورقائق من الذهب وبعض العناصر الزخرفية التي كان يُطلق عليها جناح حورس. ومن أهم اكتشافات البعثة العثور على ثلاثين ورشة وهي ورش متخصصة لتصنيع وتجهيز الأثاث الجنائزي قبل وضعها داخل المقبرة، بالإضافة إلى مقبرة أُطلق عليها رقم KV 65. وقد اُستعملت لحفظ بعض الأدوات والأثاث الجنائزي. وهي مماثلة للمقبرة KV 54 المجاورة لمقبرة الملك توت عنخ آمون التي وُجدت بداخلها الأدوات التي اُستعملت في بناء المقابر الملكية. وقد حفرت البعثة بجوار مقبرة الملك توت عنخ آمون وعثرت على العديد من القطع الأثرية المهمة ومنها اثنان وأربعون كوخًا عماليًا صغيرًا كان يضع العمال فيها الأدوات التي كانوا يستعملونها في بناء المقابر قبل أن يغادروا الوادي إلى دير المدينة، بالإضافة إلى العديد من اللوحات المنقوشة بالهيروغليفية التي توضح العديد من الموضوعات الأثرية المهمة، بالإضافة إلى أجزاء من مقابر منقوشة وخواتم من عصر الرعامسة.
دير المدينة
غير أن موقع دير المدينة بالبر الغربي لمدينة الأقصر يعتبر من بين أهم المواقع التي تمدنا بمعلومات مهمة عن العمال والفنانين الذين قاموا ببناء مقابر وادي الملوك وغيرها. ويمدنا موقع دير المدينة بالعديد من المعلومات الأثرية والدلائل النصية من هذا الموقع الثري، خصوصًا من عصر الرعامسة، أي العصر الذي عاش فيه نجم الأرض الملك رمسيس الثاني العظيم وخلفاؤه. وقد كانت بداية عيش العمال في ذلك الموقع منذ بداية عصر الدولة الحديثة وعصر الأسرة الثامنة عشرة، وقامت الدولة بإعالتهم للقيام بمهامهم في بناء المقابر الملكية وتزيينها. وكان العمال يقومون كذلك بالعمل في مقابر النبلاء، بل في بناء مقابرهم هم أنفسهم في الموقع الذي كانوا يعيشون فيه. وكان يتم دفع أجورهم وفقًا لدرجاتهم الوظيفية وألقابهم. وكان يتم تقسيم العمال إلى فرق أو جماعات، وكان العمال يتوارثون مهنتهم جيلاً بعد جيل. وكان الأبناء يتعلمون المهنة من الآباء؛ كي يتم الحفاظ على تقاليد المهنة داخل الأسرة الواحدة. ومن بين الأمثلة الجميلة في هذا الأمر، لوحة الفنان مريت سن، في متحف اللوفر في العاصمة الفرنسية باريس، والتي يذكر فيها أنه شارك علمه ومعرفته بمهنته مع ابنه. وهذا مثال نادر يعرِّفنا باسم أحد الفنانين العظام من مصر القديمة. ومن الجدير بالذكر أنه لا توجد كلمة تعبر عن كلمة «فن» في اللغة المصرية القديمة، كما نعرفها حاليًا، وكذلك لا نعرف الكثير من أسماء الفنانين الذين قاموا بإبداع هذه الأعمال الفنية القادمة إلينا من مصر القديمة، ولم يكن مسموحًا لهم بالتوقيع بأسمائهم على أعمالهم، كما هي الحالة في عصرنا الحديث، وقد كتب بعض الفنانين أسماءهم على استحياء في بعض المقابر وفي مواضع خفية غير ظاهرة.
قصة حياة العمال والفنانين الذين أبدعوا تلك الأعمال المعمارية والفنية الجميلة من مصر القديمة هي قصة الحضارة المصرية المبدعة وقصة الإنسان المصري المبدع دائمًا وأبدًا.
التمثال الشافي
آمن الفراعنة بالسحر وقوة الكلمة المكتوبة والشفاء من خلال قوتها السحرية. وآمنوا كذلك بقدرة الكلمة على التنكيل بمن يعرض آثارهم وأعمالهم الأخروية للاعتداء والتدمير. وكان من بين ذلك ما عُرف بـ «لوحات حورس السحرية».
ويأتي تمثال جد حور الشافي بين أهم الأعمال القادمة لنا من مصر الفرعونية. وتم نحت تمثال الكاهن جد حور الشافي من البازلت الأسود. وهو من أشهر التماثيل الفرعونية بالمتحف المصري بميدان التحرير. ويوجد في الدور الثاني في المتحف. وجاءت الشهرة الطاغية لهذا التمثال من الشائعات التي انتشرت حوله، والتي تدعي أنه تمثال «مسحور»، وهي شائعات وليست لها أي أساس من الصحة، وليس هناك أي دليل علمي يؤيدها.
يعود تاريخ هذا التمثال إلى العصر المتأخر من تاريخ مصر الفرعونية. وينتمي إلى نفس المدرسة الفنية والسحرية التي أنتجت ما يعرف بـ «لوحات حورس السحرية». ويعتبر تنويعًا عليها. وظهرت «لوحات حورس السحرية» في العصر المتأخر. وكانت تُستخدم لأغراض علاجية عديدة، خصوصًا العلاج من لدغات الحيات والعقارب والزواحف السامة.
وقُصد بالرموز المحفورة على تلك اللوحات مخاطبة عالم آخر، وهو العالم النجمي أو «دوات» في اللغة المصرية القديمة. وكان العالم النجمي في نظر المصري القديم هو عالم يتداخل مع الحياة الأولى، ولم يكن منفصلاً عنها، وكان هو العالم الذي تذهب إليه الأرواح بعد الموت، وكان أيضًا المصدر الذي تأتى منه كل الأشياء، وكانت أيضًا تكمن فيه أسباب كل الأمراض. وكان الكهنة في مصر القديمة يقومون بمعالجة المرضى عن طريق الاتصال بهذا العالم الخفي.
وكانت لوحات حورس السحرية جزءًا من طقوس السحر في مصر القديمة. وكانت رموزها تخاطب العالم النجمي. ويحمل تمثال جد حور الشافي كل الرموز الموجودة بلوحات حورس السحرية. فالكاهن يجلس وأمامه لوحة مصور عليها حورس الطفل يطأ بقدميه تمساحين يتجه كل منهما عكس الآخر. وكانت التماسيح في العالم النجمي رمزًا للخطر الكامن الذي كان لا يراه الإنسان. فكان التمساح يقبع تحت سطح الماء. وكان يتربص بضحيته حتى إذا توهمت الضحية أن الماء آمن، انقض التمساح عليها من تحت الماء. ويطأ حورس التمساحين بقدمه كرمز للتغلب على الأسباب الكامنة للأمراض. ويمسك حورس في إحدى يديه أسدًا، وفى اليد الأخرى غزالاً، رمز الشراسة والوداعة. ويقف حورس الطفل متزنًا. وهذا الاتزان هو سر الشفاء؛ فالمرض في الأصل هو عبارة عن خلل في توازن الانسان. وما تفعله الرموز الموجودة بلوحات حورس السحرية هو أنها تخاطب العالم النجمي بلغة الرمز، وتعيد التوازن إلى المريض مما يساعده على الشفاء. وفوق حورس هناك رأس الرب «بس» المختص بحماية الأطفال. وهو يحمي الطفل حورس في مهمته.
وتمثال الكاهن جد حور الشافي مغطى بالكامل برموز تخاطب العالم النجمي. ورموز الحيات والعقارب من أكثر الرموز انتشارًا بالتمثال. وفوق ظهر التمثال صورة للرب «حكا»، رمز السحر الكوني. وكان التعامل مع التمثال وما يحمله من رموز يتم باستخدام الماء، حيث كان يقوم الكهنة بصب الماء فوق التمثال وتركه ينساب ويتجمع في حوض صغير تحت أقدام حورس الطفل. وكان يُترك الماء يتفاعل مع الرموز الموجودة بالتمثال حيث كان يتم شحن الماء بطاقة هذه الرموز القوية. وبعدها كان يُعطى الماء للمريض ليشربه أو يغتسل به، حيث كانت تقوم طاقة الماء بإحداث التوازن داخل جسم المريض وتساعده على الشفاء.
وللتمثال حضور قوي للغاية، وبه طاقة لا يمكن تجاهلها. ولا يمكن تجاهل تلك الابتسامة الهادئة على وجه تمثال جد حور الشافي. وهي ابتسامة كلها طمأنينة وسكينة. وتعد طاقة إيجابية يبثها التمثال بقوة في المريض فتساعده على الشفاء. إنها مصر الفرعونية الساحرة ذات السحر الذي لا يُقاوم.
التكملة في العدد القادم