أجرى الحوار: إخلاص فرنسيس
هل خطر ببالنا أن نسأل أنفسنا يومًا ما عن مبدع كلمات عشناها في وجداننا، كبرنا وعشنا معها أحلامًا وردية؟
وهل تكبّدنا عناء البحث عن كاتبها الذي نقل مشاعرنا، وأعاد صياغتها بحرفه المبدع، نسمعها ونطرب لها إلى ما لا نهاية، من الكتّاب الكبار الذين سمعنا كلماتهم وطربنا لها الصحافي والشاعر الغنائي مأمون الشناوي، صاحب التاريخ الحافل بين الصحافة والأغنية، مأمون الشناوي وعلاقته بأم كلثوم، وأبرز القصص والمواقف التي حصلت بينهما، وخلفيات بعض الأغاني التي كتبها لأمّ كلثوم وغيرها، وحكايات حياتية وإنسانية أخرى مع مأمون الشناوي حيث ترك بصمة في عالم كتابة الأغنية، لكبار المطربين والمطربات. رحل تاركًا خلفه إرثًا عظيمًا والأكثر إذاعة على مدار الساعة، وكي نقف على بعض جوانب حياته الفنّية واليومية كان لا بدّ أن نلتقي بنجله المهندس ناجي الشناوي.
استقبلنا أ. ناجي بابتسامته الدافئة في الجور البارد يلفّ عنقه الشال الأحمر، وفي يديه دفء الذكرى.
المكان والزمان يقفان عند كلمة، نغمة، وصوت، كيف إذا كنت وجهًا لوجه مع كاتب أجمل كلمات غنّتها أم كلثوم بصوتها المميز، وسافرت بنا على أجنحة الحلم والشجن، سهرنا معها، وتعلّمنا العشق والحبّ، ولكن يبقى خلف الكواليس هناك رجل كتب الكلمة التي نردّدها دون أن نعرف حيثيات حكاية الأغنية وما رافقها.
من هو وكيف كان يفكّر مأمون الشناوي الرجل الصحافي والشاعر.
وعن بدايات مأمون الشناوي
الذي لم يتورّع أن يمسك بيد كلّ من لديه موهبة، وبحكم شراكته في الشركة الفنية صوت الحبّ، والأشياء المجهولة عنه، أنّه كان صديق وزميل دراسة لاثنين من أهمّ الصحافيين في تاريخ مصر علي أمين ومصطفى أمين، وهما نفس العمر وفي ذات المدرسة الخديوي إسماعيل.
عمل في الصحافة من ١٩٣٣ -١٩٦١ مأمون الشناوي من مواليد ١٩١٤
بدأ حياته صحافيًّا في روزاليوسف، في عمر ١٨ سنة، وكتب الشعر الفصيح بداية، وكان من جماعة أبولو التي انشأها أحمد زكي والتي تضمّ كلّ الأسماء المهمّة في تلك الحقبة، ونشرت له مجلة أبولو حوالي ٩ قصائد بالعربية الفصحى ودراستين، وكانت إحدى الدراسات الجميلة هي فكرة القديم والحديث، كيف أنّ المدرسة القديمة لا تتقبل بصورة جيدة الحياة الجديدة او الحداثة، في تلك الأثناء كان محمد التابعي خاله من أشهر الصحافيين ومن مؤسّسي روز اليوسف، وبعد ذلك أسّس آخر ساعة وأخبار اليوم، فاشتغل مأمون فيهما منذ بدايتهما، وكان واحدًا من سبعة أسماء رؤساء تحريرها، وأسّس مجلة هو وصديق له كان اسمها كلمة ونص، وقد خرّجت مجموعة من كبار الصحافيين، صلاح حافظ إبراهيم الورداني ومحمود السعدني وغيرهم.
وعن بداية مسيرته وكتابة الأغنية وعلاقاته بأهل الفن يقول:
طوال مسيرته كان يكتب الأغنية، وبدأ يتعامل مع محمد عبدالوهاب في عمر ٢١ سنة، وكتب له (انت عذول زماني حرام عليك) ثمّ كتب له مجموعة من الأغاني تعتبر من أهمّ أغاني عبدالوهاب، (كل ده كان ليه) وكتب له أغنية وطنية مهمّة في أثناء الحرب العالمية الثانية اسمها ( نشيد الجهاد)، وفي هذه الأثناء كان يتعامل مع أغلب المطربين المهمين، وكان أول من قدّم سيد مكاوي، في الوقت الذي لم يكن أحد يعرف من هو سيد مكاوي، فاختار أن يقدمه مع وجه معروف وقدمه ليلى مراد، وعمل لهما أغنية واحدة (حكايتنا احنا الاتنين).
تجدر الإشارة أنّ من الأشياء المهمّة جدًّا أيضًا، على الرغم من أنّ نتاجه الشعري كان بسيطًا، وقليل نسبة لمعاصريه، فمجمل شعره الغنائي كان ٤٣٠ أغنية، ولكن بدا غزيرًا جدًّا، ولسبب بسيط أنّ أغانيه حتى الساعة هي الأكثر إذاعة، ليبدو لنا أنه الأكثر غزارة كتابة.
مأمون وأم كلثوم
من طرائف أم كلثوم والشناوي:
من القصص الطريفة في حياته علاقته بأم كلثوم، وقد بدأت وهو صحافي في روزاليوسف، حينها أتى إليه عمدة من الصعيد ومعه كم محكمة بضم السيدة أم كلثوم إبراهيم البلتاجي لبيت الطاعة، وأتى بصورة عن حكم المحكمة، وهو بحكمه صحافي نشر الخبر، والستّ أم كلثوم هنا اتعصبت، ورفعت قضية على روزاليوسف، وهو واجب عليه أن يحضر المحكمة، وفي تلك الفترة الكلّ يعرف أم كلثوم، ولكن هي لا تعرفه، ولسبب غير معروف وهي في غرفة الانتظار انتقته هو بالذات، وسألته عن موعد الجلسة، وهو لم يحمل ساعة بيده أبدًا فقال لها: تقريبًا الساعة عشرة، وكانت قد تجاوزت عشرة ونصف، فأجابت: وتبعيدًا كم؟ عندها قال لها: أنا من كتب الخبر، طبعًا الحكم كان حقيقيًّا، ولكن ليست هي المقصودة، لأنّ اسمها الحقيقي لم يكن أم كلثوم، وكانت أم كلثوم هي زوجة العمدة، ولكن هذا كان شكلًا من اشكال التشهير نوعا ما.
دامت علاقة الصداقة بالسيدة أم كلثوم بعد حادثة المحكمة وبيت الطاعة إلى الأربعينيات، فعرض عليها مجموعة من الأغاني منها، أول همسة والربيع، وبنادي عليك، وكانت تطلب تغيير بعض الكلمات، فكان يرفض نهائيًّا ويقول الأغنية كما هي لا ينفع أن نقول للرسام اجعل العيون خضراء أو طول الشعر أو قصر الموديل، لا ينفع ذلك بتاتًا، خذها كما هي أو اتركها، وكان يمشي من عندها إلى فريد الأطرش الذي كان يأخذ الأغنية كما هي، لا يغير حتى ولا كلمة، ومن محبّة أم كلثوم له ومزاجها معه كانت تدعوه (مأموص الشناوي).
من طرائفه أيضًا مع أم كلثوم، اتصلت به، وقالت له: سوف أدخلك إلى غرفة لم يدخلها أحد من قبل، أنت أول رجل يدخلها، وأصبحت الأفكار تأخذه وتجيبه، محتار كيف أول رجل أدخلها، ولم يستطع أن يقول لها: لا، لأن لا أحد يستطيع أن يقول لا لأم كلثوم، وفي الوقت نفسه هو مرعوب من الفكرة، ذهب وكان أن أدخلته غرفة السفرة، كانت غرفة جديدة، وكان هناك سمعة عن أم كلثوم أنّها بخيلة، ولكن هذا ليس بحقيقي، وكان لنا صديق دكتور وديع صاحب صيدلية إلى جانب بيت أم كلثوم، وكان يقول : كلّ أسبوع ترسل له وصفات أدوية عليها ختم أم كلثوم، وكان يصرف لهم الدواء، وكان الشرط الوحيد أن يعطيهم الأدوية بدون علبة، كي لا يعاد بيعها، وكان حسابها الأسبوعي لا يقلّ عن ٢٠٠ جنيه في ذلك الوقت، وهذا مبلغ مخيف، وعن دورها بعد حرب ٦٧ حيث باعت ذهبها، وتبرّعت بريع حفلاتها للمجهود الحربي.
وعن السؤال إذا كانت أم كلثوم غنت الربيع، هل كانت ستأتي بذات الجمال التي غناها فريد، قال: أنا أشكّ.
انطلاق لفظة (الشعر الغنائي) وتوقّفه عن الصحافة:
في عام ١٩٦١ توقّف عن الصحافة عندما كان رئيس تحرير جريدة الجمهورية التي كان يعمل بها هو أخوه كامل الشناوي، هو كان يكتب بوكس بعنوان(سبعة تيام بلياليهم )، ومن الملاحظ أنّ لفظة (تيام) ليست صحيحة لغويًّا، فسألت أمال فهمي مع طه حسين قائلة الصحافة ليست هناك لغة عربية، فأجاب هذا خطأ محمود، وسألته أيضًا في الحوار نفسه لماذا لا يحبّ العامية، فقال لها بل على العكس، فأنا سمعت السيدة أم كلثوم تشدو : “ كل نار تصبح رماد مهما تئيد إلا نار الشوق يوم عن يوم تزيد”، وهذا شعرٌ خالص للشاعر الغنائي مأمون الشناوي، وكانت أول مرة يقال لفظ شعر غنائي، وكانت من ابتكار طه حسين، هو من أطلقها.
قصة أغنية (أنساك ده كلام)
حين توقف عن الصحافة لأسباب سياسية، توقّفت الاتصالات عن منزلنا كلّ ما يخصه من أصدقائه من أحمد رجب ومصطفى علي أمين، لمدّة شهرين، وفوجئ باتصال من أم كلثوم، ومن عادته حين يخاطب ام كلثوم كان يخاطبها بلغة المذكر، فقالت له: أنت نسيتنا ولا أيه يا مأمون؟ فأجاب: أنساك.. ده كلام؟ فقالت له أريد هذه الأغنية، وبعد نصف ساعة كتب أغنية أنساك، وقالت له: لن أغيّر فيها أيّ حرف، ولكن سأغيّر اسمها، لأنّ كلمة أنساك تقيلة شوية، فقال: لا بأس، مش ممكن أبدًا كان على أول أسطوانة، ولكن الأسطوانة الثانية طبع عليها العنوان أنساك، وهذه الأغنية أهمّيتها في الملحن، فسألته من لحنها؟ فقال: محمد فوزي الذي كان يملك شركة أسطوانات وكلّ أسطوانات أم كلثوم هو من أنتجها، أخذ محمد فوزي كلمات أنساك، وكان لديه موعد مع أم كلثوم، والتي كانت منظّمة جدًّا، فورق الموضوع حاضر وجاهز، ولكن المنظّم للورق وضع الورق عن طريق الخطأ، كلمات أنساك أتى في ذات الوقت كان بليغ حمدي ، فلحن الكلمات، واقتحم جلسة أم كلثوم ومحمد فوزي وعرض عليهم لحنه، فتفاجأ بليغ، وأحرج كثيرًا وطلب أن يسمع من محمد فوزي، فقال له: لا اللحن يبقى لك، ولكن غالبًا محمد فوزي لحن الكوبلييه الثاني، وبقيت كما هي، واللحن المشترك،( ذكريات حبي وحبك منسهاش هي اللي قلبي فيها عاش). بليغ حمدي كان في عمر ٢٢ سنة، وكانت ثاني أغنية يلحّنها لأم كلثوم، الأولى كانت (حب ايه) ورأي أم كلثوم في أغنية حب إيه أنّ فيها “ردح”. قيل عن أغنية أنساك كلام كثير جدًّا ، المفروض زكريا أحمد يلحنها، وقيل سيد مكاوي مفروض يلحنها، ولحنها فعلا، ولكن لم نسمع الأغنية منهم، بليغ حمدي ومأمون عملا معها ثلاث أغاني:(أنساك، كلّ ليلة وكل يوم، وبعيد عنك).
عبدالوهاب واختياراته الزلقة لأم كلثوم:
آخر أغنية لأم كلثوم على المسرح كانت كلماته (دارت الأيام) ولحن عبدالوهاب، وهذه الاغنية مطلوب سماعها بطريقتين في رأيي الخاص قال أ. ناجي، تسجيل الحفلة وتسجيل الإذاعة، وعبدالوهاب على ما يبدو كان عنده بعض المزالق الفنية قد توقع المطرب في شرّ، أو يجعله يخطئ في الأداء، فعمل اللحن أعلى من صوتها، وحين تسمعين تسجيل الإذاعة تجدين أنّ أم كلثوم تنهج وتجري خلف اللحن، ولكن في الحفلة كانت وكأنّها بعمر العشرين سنة، هناك أغان كثيرة لأم كلثوم لم تسجل إلا في الإذاعة مثل أغاني الأفلام كلّها، ولكن بعض الشرّ من عبدالوهاب كانت ظاهرة جدًّا في أغنية دارت الأيام.
وعن التغير المبكّر الذي أحدثه مأمون الشناوي مع عبدالوهاب هل أحدثته أم كثوم مع عبدالوهاب محمد، الخروج والتحرّر من مذلة المحبوب، قال: إنّ أم كلثوم كانت لديها ميزة أهمّ من كلّ المطربين، على سبيل المثال، يقولون إنّها قضت على منيرة المهدية، ولكن الحقيقة تختلف أنّ منيرة المهدية لم تستطع أن تغيّر من أدائها بحيث تواكب العصر، فماتت فنيًّا، ولكن أم كلثوم كان لديها الجرأة أن تطور وتتطور، من شاعر وملحن إلى آخرين، وفي سنة ٥٦ في أثناء العدوان الثلاثي كانت من الجرأة أن تأتي بالشابين كمال الطويل وصلاح جاهين، ٢٣ و ٢٤ سنة عملا النشيد القومي لمصر، (والله زمان يا سلاح) من يستطيع أو من لديه الجرأة ليقوم بهذا، أن يقفز هذه القفزة النوعية في تاريخها الفنّي، التنقّل ما بين القديم والجديد.
وعن رأي لمأمون الشناوي بالتعامل بين محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، والتحول الذي صنعاه معًا، مأمون الشناوي لم يكن ينتمي إلى المدرسة القديمة، فهو شاعر متطور، لم يتوقّف في منطقة معينة، والدليل أنّه تنقل بين العامية والفصحى ، ومن المدرسة القديمة القصبجي وزكريا أحمد اللذين اعتبرا تجديد أم كلثوم عك، ولكن الشناوي كان يرى أنّها دائمًا تطور نفسها، وتبحث عن الجديد مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذا التطور سلبي إيجابي، مع العلم أنّ كلّ المدرسة القديمة كانت ترى أنّه لم يكن على أم كلثوم أن تغنّي لعبدالوهاب.
مأمون وفريد وأسمهان وعبدالحليم حافظ
من القصص الطريفة وعلاقته بأسمهان وفريد الأطرش يقول: من ضمن القصص الطريفة كانت له علاقة جميلة جدًّا بفريد الأطرش، وكتب له الربيع، وأول همسة، ومن الحوادث الطريفة في حياته أنّ آخر أغنيتين لأسمهان في فيلم غرام وانتقام مأمون هو من كتبهما( أمتى حتعرف وأغنية أهوى) كانت لمأمون علاقة وطيدة جدًّا مع محمد فوزي، ليلى مراد، وفريد الأطرش.
هو لم يكن يكتب للموقف على وجه الخصوص، كان على كاتب السيناريو أن يضبط المشاهد حسب الأغنية، ولكن حين طلب منه أغنيتين كان يعاني من مشكلة مادية كبيرة، فأعطوه مبلغًا معينًا من المال، كتب الأغنيتين وحلّ مشكلته المادية، وبعد كتابة الأغنية وإذاعة الفيلم فوجئ أنّ مدير الإنتاج يبحث عنه، ويسأل عنه أينما ذهب، فتخيّل أن الأغاني لم تعجبهم، وبعد عدة محاولات التقى به، فقال له سوف أردّ لك المبلغ المالي عند توفّرها عندي، فأجاب مدير الإنتاج لا إنّ طلعت حرب رئيس شركة الإنتاج أعجبته الأغاني، وقرّر أن يضاعف لك المبلغ.
أمّا عن علاقة مأمون الشناوي وعبدالحليم حافظ، وإذا كان يكتب الكلمات على وجه الخصوص له أم أنّ عبدالحليم هو مَن يختار من قصائد الشناوي؟ لم يكن عبدالحليم ليختار، ولكنّ الملحنين هم من يختارون له، منهم الموجي، عبدالوهاب، والطويل، يسمعون القصيدة ويعطونها لعبدالحليم الذي كان يوافق دون أيّ مشكلة.
مأمون الشناوي كان أول شاعر غنائي معروف يكتب لعبد الحليم حافظ ، كان رأي أ. ناجي، ففي البدايات كتب لعبد الحليم أهمّ الأغاني في حياته الفنية، منها خسارة، عشانك يا قمر، وكتب له ٢٨ أغنية تعتبر أهمّ الأغاني في حياة عبدالحليم،
وبعدها مرّ بمرحلة في منتصف الستينيات لم يعد عبدالحليم كما هو، فكتب له في آخر فيلم، يوم من عمري، (خايف مرة أحب) والأغنية الأخيرة (يوم من عمري) وهذا كان آخر تعامل معه.
ذكريات مع الوالد صاحب النكتة
مأمون الشناوي كان صاحب نكتة، ومن ضمنها، مرة كنت في ثاني ثانوي، وحصلت خناقة مع أستاذ الفيزياء، فقال لي سوف ترسب، وأعمل لك ملحقًا، وكنت تلميذًا مجتهدّا، ولما طلعت النتيجة وجدت لديّ ملحقًا في الفيزياء، ذهبت النادي حتى قفل، وعدت إلى المنزل في جاردن سيتي حيّ مليء بالأشجار، وكنت وحدي لأنّ الأهل كانوا في الإسكندرية، وكان والدي يأتي كم يوم في الأسبوع، وأنا أقف في الشرفة، والجو جميل، وقال لي: ما رأيك في الطبيعة يا ناجي؟ أجبت: الطبيعة التي هي الفيزياء أم التي أراها الان؟
وعن السؤال كابن مأمون الشناوي الصحافي والشاعر المشهور ما هو انطباعك؟
مأمون الشناوي كان بسيطًا جدًّا، لا يشعرك بأنّه متشاوف، وكنت دائمًا فكرة أن أقدّم كابن مأمون الشناوي، كنت أحرج كثيرًا، لأنّي في كلّ حياتي لم أره يتفاخر بأنّه مأمون الشناوي، كلّ الفرص التي أتيحت لي أنّي عاصرت كلّ المهمّين من أم كلثوم لعبد الحليم وعبدالوهاب، وكنت في بيئة مميزة، ولكن لم أكن أشعر أنّها ميزة، كلّ هذه الأسماء الكبيرة كنت أشعر أنّها أناس عاديون، وأمّا أصحابه من الوسط الفني أو الصحفي فكانوا قلائل جدًّا.
وعن شعوره حينما تذاع أغنية لأم كلثوم، وتبدأ الناس وكلّ العرب بتحليل الأغنية فالكلّ مجتمع حول كلمته التي تحولت من الورق إلى موسيقا وصوت.
لم يكن يحبّ الأغاني خاصته ما عدا أغنيتين، كان يرى فيهما خلاصة الفلسفة الخاصة به، (الدنيا ريشة بهوا) سعد عبدالوهاب، والأغنية الثانية لنجاة الصغيرة، كان يحبّ نجاة كثيرًا (كلمني عن بكرا وابعد عن مبارح أخاف من الذكرى وسهمها الجارح).
وعن فلسفته وسبب كتابة هذه الأغاني كان مأمون الشناوي يعاملنا على أنّ كلّ واحد حرّ تمامًا، ولكن أنت مسؤول عن حرّيتك، أي اختيارك، يعني لا تسألني أيّ كلية أدخل أو أتزوج من، أنت حرّ، وأيّ نتيجة تحصل لاختياراتك أنت مسؤول عنها، وهذه كانت أشياء جيدة، وهو بالذات تحمّل مسؤولية اختياراته.
وعن سؤالنا للأستاذ ناجي: ما أحبّ الأغاني التي كتبها الوالد، ويحبّ سماعها حين ينفرد بنفسه، ولماذا؟
أجاب: أحبّ أغنية لعبد الحليم حافظ في يوم من الأيام، وغنتها نجاة، وأغنية ليلى مراد يا أعزّ من عيني، في رأيي هو كتبها للفيلم، وفيها جزء جعلني أحبّ الأغنية كثيرًا على الرغم أنّه ضدّ منهجه جدًّا، ولكن حين نسمع الأغنية نرى أنّ محمد فوزي ومأمون الشناوي قد قرأا سيناريو الفيلم قراءة جيدة، كيف نكتشف ذلك، ليلى مراد هي ابنة موظّف السنترال في مرسى مطروح، ولكن هم من القاهرة، ذهبت مرسى مطروح وهي صغيرة، فأحيانا نجد أنّ نطق القاف حسب نطق البدو، وأحيانًا تسترد وعيها القاهري فتنطقها همزة، ومن ثمّ نكتشف أنّ قافية الأغنية بدوية (ضي وزي وحي)، والتي هي الياء المشدّدة، وهذه بدويّة جدًّا، هذا بالنسبة لمن كتب الأغنية، ونأتي إلى الملحّن، كيف له أن يبدأ افتتاحية الأغنية بالدفوف وهي إشارة توضّح أنّه قرأ السيناريو قراءة جيدة، واستطاع أن يعرف، ويتماشى مع أحداث الفيلم، وهناك أغنية أخرى لليلى مراد (سنتين وانا احايل فيك) ألحان رؤوف زهني، لها أعظم مقدّمة موسيقية، عبدالوهاب غامر مغامرة كبيرة حين قبل كلمات مأمون الشناوي، الهوان وياك معزة، علشان الشوك اللي بالورد بحب الورد، هذا كان أسلوب عبدالوهاب يتلذّذ بالألم، ولكن مأمون الشناوي كتب له الأغاني التي فيها تفاؤل، وكان عبدالوهاب من الجرأة أن يقبل تغيير ثيمة أغانيه، وكتب له أغنية ( يللي دموعك لحبابيك قلي ابتسامتك تبقى لمين) مأمون الشناوي نقلة عظيمة وكبيرة للفرح، ونموذج آخر أغنية (أنسى الدنيا وريح بالك) نموذج آخر.
سمعنا عشرات من الصحفيين والنقاد والمذيعين وفي مناسبات عديدة لمولده طرحوا أسئلة ، أكيد كنت ترجو وتتمنّى أن تطرح عليك أسئلة من نوع خاصّ، تودّ أن تجاوب عنه تلك الإجابات؟
أنتم تسألون عن مأمون الشناوي، وفي ذهنكم أنّه كاتب أغان، في الحقيقة كان صحفيًّا كبيرًا، وشاعرًا بالفصحى، والأغاني أتت مؤخّرًا، كانت هناك صحفية من البي بي سي تسأل مأمون: كيف توقّفت عن شعر الفصحى وكتبت بالعامية، فقال لها بالنص تمامًا: كنت مرة ماشي في الشارع، تعثّرت، ووقعت على ركبتي، ووجدت نفسي أقول: آه يا رجلي، وفكرت بعدها كان من المفروض أن أقول أوآه يا ساقي، ولكن هذه ليست خارجة من قلبي، فقرّرت عندها أن أتوقّف عن الكتابة بالفصحى، مع أنّه لم يتوقف عن الفصحى.
القضايا الفكرية لدى مأمون الشناوي
وبالسؤال ما هي مصادر الإبداع والإلهام عند الشناوي، هل كانت مكتبته أم تجاربه الشخصية وحياته؟
نحن من أسرة الجدّ الكبير، وأكبر أعمامي كان وكيل جامع الأزهر هو عمّي كامل تخرّجوا من الازهر، جدّي أبو والدي كان رئيس المحكمة الشرعية العليا، منصب ديني مهمّ جدًّا، وعمّ والدي كان الشيخ مأمون الشناوي شيخ الأزهر، فالبيئة كلّها كانت أزهرية، لكن كلّهم كانوا يكتبون الشعر، عاصرت مكتبة جدّي التي آلت إلينا وعمّي كامل، كمية دواوين الشعر المطبوعة في المطابع الأميرية في القرن ١٩ كلّ أمّهات الكتب للشعر العربي موجودة فيها، وبالتالي هو في بيئة تسمح له بالاطلاع على مكتبة محترمة جدًّا، ويسمع والده يقول الشعر، فالموجود في هذه البيئة يجب أن ينتج شعرًا، ومن لم ينتج الشعر فهذا غير طبيعي، وكان عنده ميزة مذهلة لم توجد عند غيره، كان يحفظ الشعر من السماع الأول ومن القراءة الأولى حتى ولو كانت القصيدة من ٢٠٠ بيت كان يحفظها، ويعيدها بعد القراءة الأولى.
مأمون الشناوي، الصحافي ما هي القضايا التي كانت تهمّ قلمه؟
كان صحافيًّا فنيًّا لامس مع السياسة، كان من أشدّ المؤيّدين لثورة ٣ يوليو ومن أشد المبشّرين بثورة ٢٣، لأنّه كان يرى أنّ هناك ظلمًا يدور في البلد ممّا دفعه إلى كتابة قصيدة عامية يحكي فيها عن اللخبطة بين الأحزاب والحكم، وتعرّض للسجن عدة أيام، يقول فيها:
(يا تبلشفونا يا ترسملونا يا تموتونا يا تريحونا إن كان لنا لقمة تكون بدقة ونص شقة، وإن قلنا لا بتحبسونا، وفي النهاية نقول ملعون أبوكم على أبونا).
ولما قامت الثورة كتبت قصائد وطنية أيضًا، ولكنّه لم يكتب للزعماء، على الرغم أنه كان في كلّ عام يدعى لعيد ميلاد الملك الحسن، والملك فيصل أيضًا دعاه، ولكنّه لم يكتب أيّ شيء لأيّ زعيم.
كامل ومأمون كانا صديقين إلى أقصى درجة، مرتين رأيت والدي يبكي هما يوم وفاة كامل الشناوي، ويوم وفاة عبدالناصر، بكى أخوه الأكبر وصديقه، وهو أول من قدّمه ودفعه في اتجاه الثقافة والشعر، وحين سألته كيف تبكي على عبدالناصر؟ وكان قد ترك الصحافة لأسباب سياسية، فكان ردّه غريب جدًّا: اللي شبكنا يخلصنا، أي لم يكن لأحد أن يخرجنا من نكسة ٦٧ سوى عبدالناصر، وكان يرى أنّ المخلّص الحقيقي هو عبدالناصر الذي أدخلنا المشكلات ثمّ مات، ولم نخرج من آثار النكسة حتى اليوم، مع أنّها لم تكن من كلماته.
لم يتورع مأمون الشناوي أن يمسك بيد كلّ من لديه موهبة وبحكم شراكته في الشركة الفنية صوت الحبّ، كان من المصادفات أن يلتقى بأحمد عدوية، ويصدر له أول أسطوانة، بيع منها ثلاثة مليون أسطوانة في خلال شهر، وغيره مثل هاني شاكر الذي أنتجوا له أول شريط.
وعن الشعراء القريبين إليه المتنبي وأحمد شوقي وكامل الشناوي على الرغم من بساطة إنتاجه، ومن كتّاب الأغنية مرسي جميل عزيز كان يحبّه كثيرًا، وكذلك محمد علي أحمد.
وعن المقارنة بين الوسط الثقافي والساحة الفنية الآن وفي أيام مأمون الشناوي، التنافس والحسد والتنافر، لم يكن في وقت الشناوي هذا السوء، كان هناك تنافس محترم، غيرة للأحسن، وإليك مثل: هناك أغنية من أشهر أغاني محمد قنديل، (يا رايحين الغورية هاتوا لحبيبي هدية)، هذه الاغنية كانت لعبدالحليم حافظ في الأصل، ففي ذلك الوقت لم يكن لديه الجرأة كي يقف في وجه محمد قنديل، لم تكن فكرة المنافسة غير الشريفة مطروحة، فكلّ شيء كان للأفضل، ومن ضمن الأحداث التي تدعو للدهشة فيلم المليونير الذي كتبه مأمون الشناوي، مأمون كتب كلّ مواقف الأغاني والاستعراضات، وطلب منه أن يكتب الأغاني، فقال: لا بل ليكتبها أبو السعود الإيبياري السيناريست، ونجح الفيلم نجاحًا خارقًا، تبادلا الأدوار، الشاعر كتب المواقف، والسيناريست كتب الأغاني، وهذه إشارة إلى جيل لم يكن لديه حرج المنافسة بل الكلّ يعمل في صالح العمل، بغضّ النظرعن من كتب هذا أو ذاك.
وبسؤالنا عن أمكانية تغيير كلمات أغنية معينة إذا اتيحت له الفرصة أجاب: لا يمكن ولا ينفع تغيّر أيّ شيء، لأنّ هذه مسؤوليته قالها كما هي، حتى لو كانت بها عيوب، فالكاتب يتحمّل العيوب والجماليات.
وعن رأي مأمون الشناوي والأستاذ ناجي شخصيًّا في شعر الأغنية الآن؟
أجاب: الوضع مخز جدًّا الآن على الرغم من أنّ لدينا شعراء جيدين، ومن الطراز الأول.
أمّا والدي فكان هناك من يعجبه على سبيل المثال أغنية علي الحجار: عصفور طاير بالهوا، وأحبّ تلك الكلمات ، وطلب أن يرى الشاعر وعلي الحجار، وطلب أن يرى أحمد فؤاد نجم، والتقى به في جلسة رائعة، وقد ذهل أحمد فؤاد نجم من والدي لأنّه حافظ كلّ قصائده، وحين سأله نجم : يا عم مأمون ماذا تحبّ في الكلام الذي أكتبه؟ فردّ مأمون: أنا بحبّ حاجات كثيرة جدًّا، وبدأ يتلكّأ كي يشعر نجم أنّه لا يعرف، ثمّ أجاب: أنت لك أغنية بستنظرك،
أنا لحبك عذبني، وأنت اللي حبك مستتني، بستنظرك بستنظرك.
وأحبّ أغاني الثورة الإيرانية
“ تمسك ودانك من قفاك
تمسك ودانك من هنا
الخالق الناطق هناك
الناطق الخالق هنا”
طبعاً فؤاد نجم قام وقبّل والدي، مأمون الشناوي كان صريحًا ويعشق الكلمة الحلوة، ويسعى وراءها دون مجاملة.
وأتينا إلى السؤال عن دور المرأة الخاصّ في حياة مأمون الشناوي، وهل شكلت مصدرًا من مصادر إبداعه، فأجاب نجله ناجي: إنّه لا يريد أن يتطرّق إلى موضوعات شخصية، ولم تكن إجابته محدّدة إذا كانت المرأة مصدر إبداع أو لا، وقال إنّ أكثر علاقاته كانت منصبة في إطار العائلة وبناته، ولم يتطرّق إلى تفاصيل في الحديث عن الزوجة، ولكن قال والدتي هي الزوجة الثانية، وعن دعم الزوجة له سواء الأولى أو الثانية والدور الذي قامت به كلّ منهنّ أجاب: مؤكّد أنّهنّ وقفن إلى جانبه كما هو وقف لجانبهنّ، الزوجة الأولى كانت لها محاولات غير مستمرة بالعمل في الفنّ، ودورها كان عبارة عن صديقة البطلة أي دور صغير في فيلم يوم سعيد لعبد الوهاب، أمّا والدة ناجي الشناوي فلم تكن لها تجارب فنية.
وعن تجربته الشخصية والشعر،
في مراهقتي وكأيّ مراهق كتبت الشعر، ولكن حين نكون أمام تجربة مثل مأمون الشناوي، وفي مقارنة مع شاعر كبير هذه بحدّ ذاتها تجعل من الواحد أن يحترم نفسه، ولا يكتب الشعر، ولكنْ لديّ مجموعتان قصصيتان، ووالدي رأى الأولى وأعجبته.