بقلم: مينا بشير
لماذا نؤجِّلُ العَيشَ إلى أجَلٍ غير مُسَمّى؟ ربما لأننا لا نَقدِرُ على العَيشِ في الوقتِ الحالي، هكذا بهذه البَساطة. وسط الزِحامِ الذي يملأُ عالَمَنا اليوم، و في غِمارِ الثورةِ التكنولوجيةِ و الذكاء الاصطِناعي المُتَنامي، نحن لم نَعُد قادِرينَ على العَيشِ بحُرّيةٍ و بساطة. لم نَعُد نستَطيعُ العَيشَ بسَعادة، فقد انسَلَّت السَعادةُ من بين أنامِلِنا. نحن نَقِفُ وسطَ الأفواجِ كالحُجّاج تحت مظَلّةِ الرأسمالية، نَتَصَبَّبُ عرَقًا تحت شَمسِ الوَضعِ الراهِن، و نَنتَظِر. مُشكِلَتُنا الكُبرى هي أننا على قَيدِ الانتظار، ننتَظِرُ حُدوثَ شَيءٍ مُعيَّنٍ يُغيِّرُ مَجرى القَدَر و يَجعَلُ هذه الحياةَ الرَتيبةَ قابِلةً للعَيش. في الحقيقة، نحنُ نعيشُ في محَطّةِ قِطارٍ مَهجورة ، ننتَظِرُ خَبَرًا سارًّا من حيثُ لا نعلَم. نَقِفُ على أقصى حافّةٍ من التَرَقُّب، موهِمينَ أنفُسَنا بأننا نَحيا، لكننا في الحقيقةِ نَعيشُ على حَرف. جالِسينَ على نفس المِقعَدِ في تلك المحَطّةِ المُظلِمة، نُراقِبُ طَوافَ عَقرَبَي الساعةِ حولَ نُقطةِ الوسَط. لا نفعَلُ شيئًا سوى أننا نَنتَظِرُ فقط، على أملِ أن نربَحَ اليانَصيبَ و لو لمرّة، على أملِ أن يتَحَقَّقَ ما نَرجوهُ حقًا و ما نُريده، عندها فقط سنَكونُ سُعَداء. فالسعادةُ بالنسبةِ لهذا العالَمِ هي رَفاهيةٌ مَشروطة، إذ يجبُ أن تَنطَبِقَ علينا شُروطُ النجاحِ و الثَراءِ حتى نُصبِحَ سُعَداء. و هذه للأسَف أكبرُ كِذبةٍ على مَرِّ التاريخ. إن كانت السعادةُ شُعورًا داخِليًا، فلماذا نَربِطهُ بعَوامِلَ خارِجية، أو أمورٍ خارِجةٍ عن حَيّزِ سَيطَرَتِنا الضَئيل؟ إننا بهذا نَدُسُّ سَعادَتَنا و نَشوةَ أرواحِنا في يَدِ القَدَر. لماذا نَسمَحُ لشَرِكةٍ أو إدارةِ جامِعةٍ أو عَلاقةٍ عابِرةٍ أو حتى مُجتمَعٍ بأكمَلهِ بأن يُحَدِّدَ مَدى استِحقاقِنا للسَعادة. أصبَحَت سَعادةُ الإنسانِ مُعَلَّقةً على رأسِ هرَمِ الرأسمالية، غارِقةً في رَحِمِ المَصفوفة، و هذه الفكرةُ العَقيمةُ هي طامّةٌ كُبرى تجعَلُ من البشَرِ أجسادًا مُتَبَلِّدةً و طَوابيرَ تَقِفُ أمامَ المَصَحّاتِ النَفسيةِ مرَّتينِ في الأسبوعِ على الأقَل.
في ما مَضى، كان البشَرُ سُعَداءَ بلا سَبَب، دون شُروطٍ أو مَعايير. بل لقد كانَ المِعيارُ الوحيدُ لسَعادةِ الإنسانُ هو الوجود، نِعمةُ الكَينونةِ و الوجودِ في هذا العالم، هذا كل شَيء. كان الإنسانُ شِبهُ البِدائي يُدرِكُ تمامًا المَعنى الرائِعَ لكونهِ ما يزالُ حَيًّا، يتَذوَّقُ طعمَ السعادةِ اللاذِع في استِمراريةِ الحياة. إذ أنه كان يَعيشُ على حافّةِ اللَحظة، و يَقفِزُ من لَحظةٍ إلى أخرى كالعُصفور، ذبلك كان مَعى السَعادة: اللَحظة. و الحَقيقةُ هي أننا كلما ابتَعَدنا عن البِدائيةِ و دَنَونا أكثرَ نحو التَحَضُّرِ و الحَداثةِ بخُطىً مُتَسارِعةٍ فنحنُ نبتَعِدُ أكثرَ فأكثر عن ذلك المَعنى الحَقيقي البَسيط للسَعادة. بحيثُ باتَت السعادةُ اليومَ مادّيةً بامتياز، لا شُعوريةً أو حِسّيةً أو مَعنَوية. لماذا أصبحنا نُقَدِّسُ صوتَ المُجتمَعِ كأنه قُرآنٌ أو تَرانيم؟ ألم تَعُد جوقةُ زَقزَقةِ العَصافيرِ في الصباحِ كافيةً لتملأَ نُفوسَنا بالسَعادة؟ لماذا تَوَقَّفنا فجأةً عن سَلكِ الطرُقِ القصيرةِ و المُختصَرةِ نحو السعادة؟ كفنجانِ قهوةٍ مع حديثٍ لطيفٍ أو كِتابٍ جميلٍ أو رائحةِ العُشبِ الرَطِبِ الذي يزيدُ خُضرةً بعد المطَر، أو ربما صحنٍ من اللبنةِ المُغَلَّفةِ بالزعتَرِ الفلسطيني على مائدةِ الفُطور، أو صحنٍ كبيرٍ من الفوشارِ مع فيلمٍ شَيق. في رأيي، تلك هي المَعاني الحَقيقية للسعادةِ الوَقتيةِ اللَحظية، المُجرَّدةِ عن أي مُستَقبَلٍ لامَرئي، فالمُستقبَلُ في الحقيقةِ ليس سوى فِكرةٍ ضَبابيةٍ تسبَحُ في أثيرِ الغَيب. فلماذا نؤجِّلُ السعادةَ حتى نبلُغَ ذلك المُستقبَل؟ لماذا نُحَمِّلُ السعادةَ فوقَ طاقَتِها و نَمنَحُها مَعنىً أكبرَ و أعمقَ بكثيرٍ من مَعناها الحَقيقي؟ لماذا نَربِطُ سَعادَتَنا و سِرَّ وجودِنا بإنجازاتٍ كبيرةٍ لم تَتَحَقَّق بعد، و ربَّما لن تَتَحَقَّق؟ ألا يَجدُرُ بنا أن نَعيشَ حَياتَنا بسَعادةٍ رغم كل شَيءٍ و قبلَ كل شَيء؟ أليسَ من الأفضلِ أن نَعكِسَ المُعادَلة؟ فبدَلاً من القولِ أن النجاحَ و الإنجازَ هو سببُ السعادة، سنَقولُ أن السَعادةَ هي سَبَبُ النَجاحِ في هذه الحياة. كلما عِشنا الحياةَ بمَعناها البِدائي البَسيط، سيتَمَلَّكُنا شيئًا فشيئًا شُعورٌ غريبٌ بالامتِنانِ تجاهَ كل شَيء. نشعرُ فجأةً أننا نَنجَرِفُ بسَلاسةٍ مع تَيّارِ اللَحظة، مُتَناسينَ تمامًا ذلك المُستقبَل. فهذه اللَحظةُ شَمسٌ مُشرِقةٌ مُتَوَهِّجة، لكنها تَنطَفِئُ بسُرعة. أما المُستقبَلُ فهو رواقٌ كبيرٌ من الضَباب، يمتَدُّ إلى ما لا نِهاية. و الخَيارُ أمامَنا، إما أن نُمسِكَ بشَمسِ اللَحظة، أو نُراقِبَ الضَبابَ في صَمتٍ و هو يَزحَفُ نَحوَنا، كعَزرائيل.