بقلم: سوسن شمعون
عندما كنت في المراحل الدراسية الأولى واجهت الكثير من الأطفال في مثل عمري لهم سلوكياتهم المختلفة و المتباينة تبعاً لطبيعة بيئتهم ، لم أعي كثيراً كيفية التصرف حيال هذا الاختلاف و التباين ،و كان أكثر ما يمقتني هو غرور البعض و وقاحتهم بمجمل المواقف و عندما عرفتهم عن قرب أكثر أدركت أنهم يعانون في بيوتهم من عقد اجتماعية مختلفة شكّلت عندهم نزعةً عدوانية و سلبية تجاه مجتمعهم ، فباتوا يلجؤون إلى الأساليب الفوقية في التعامل و الكلام البذيء أو الجارح و كذلك الكذب و النفاق و التحايل ، إن هذه نتائج طبيعية لما يعيشونه من حالات فوضوية ضمن عائلات بعضها مفكك و بعضها يعيش تحت سلطة قمعية أو متزمتة بشكل غير منطقي و بعضها الآخر يعاقِب بإفراط عند حدوث أي خطأ بسيط دون توجيه أو تحكيم في تصرفاته ، و هناك عائلات لا مبالية ولا تهمها أحوال أبنائها من الناحية النفسية و السلوكية إذ ترمي بهم في خضم الحياة دون اكتراث لما يحدث لهم في محيطهم الاجتماعي ، بالتأكيد هذه النتائج كانت لها آثار سلبية على الأبناء و على من يتعامل معهم و إلى أمد طويل من العمر ، والآن ما زلت أذكر هذه النماذج والتي نراها جهاراً نهاراً في أي مجتمع و يتحول شعوري تجاه هؤلاء الأطفال إلى شفقة عليهم لِما عانوه من تجاهل وإهمال في تربية نفوسهم و تقويم سلوكهم و تكوين مفاهيمهم و معتقداتهم بالشكل الصحيح ، إن المتسبب الأول لما يعانيه هؤلاء هم الأهل قبل أي أحد آخر و المسؤول عن انحراف شخصياتهم و سوء أخلاقهم وتعاملهم هم الأهل أيضاً قبل المجتمع الذي لا يتفهم ولا يكترث و يأخذ فقط بالمظاهر ، إن المعاناة الحقيقية لا تكمن في الوضع المادي فقط فبعض أولئك المعقدين هم مترفين لحد الفساد و كأن المال بنظر أهلهم يمكن أن يحل مكان عاطفة الأم أو حكمة الأب ، إن عدم الالتفات لمشاكل أبناءنا و الابتعاد عن التحدث إليهم عن أحوالهم اليومية سيحول أي ولد منهم مع الوقت إلى تمثال متحرك أو شخص عدائي ، و الذي يزيد الطين بلة هو قلة تفهم الأبوين لسلوك ابنهم بساعات غضبه و التعبير عن كبته و اضطراب مشاعره ، فيبدأ الصراخ و التهديد و الوعيد و كذلك عندما تُلقى اللائمة على الابن دائماً دون مبرر و هذا يوسّع الشرخ بين أفراد العائلة ككل ، فيلجأ الأبناء إلى أناس أغراب لينفسوا عن مشاعرهم و همومهم أياً كانت ، و ليفرغوا تلك الشحنات السلبية و الطاقات الكبيرة في داخلهم ، و من هنا تبدأ العواقب الوخيمة بالتكوين و التدرج ككرة الثلج فتكبر رويداً رويداً ، و يبدأ التشتت و الانحراف ولا يجب أن نغفل عن أن الولد يرى في أبويه المثل الأعلى وإن كره تصرفاتهما لبعض الوقت لكن سيكرر هذه التصرفات و خاصة السيئة منها على غيره ، فيسلك ذات المسار دون وعي أو انتباه ، إن مسألة التربية ليست دائماً في إشباع الرغبات المادية للطفل أو اليافع فتلك اسمها عناية وهي مشروطة بكل الأحوال ولها أسسها وضوابطها ، و كذلك ليس في الإكثار من إسداء النصائح و المواعظ طوال الوقت دون أن نترك لهم المجالً للسؤال أو نفتح معهم فسحة مناقشة ، ليست التربية أن نترك أبناءنا طوال العام الدراسي لنأتي في آخره و نفاجئ بنتائج ما قدموا فننهال عليهم بالشتائم أمام الغير ، ليست التربية في الكلام البذيء و الجارح و التهديد ، ليست في سلوكنا العدواني و المتسلط تجاه بعضنا أمامهم ، كل ما في الأمر هو أن نكون أصدقاء كبار لأبنائنا و لنمنحهم الكثير من وقتنا واهتمامنا وعاطفتنا و لنجعلهم يشعرون بقيمتهم وقيمة ما يقومون به ضمن أسرتهم عندما نشاركهم الرأي في الشؤون العائلية و تحمل بعض المسؤولية بما يناسب قدراتهم و شكرهم و مكافأتهم على أي عمل إيجابي يقومون به ،التربية لا تكون بالتوبيخ المستمر على كل شاردة و واردة ، دعوهم يخطئوا و يتعلموا من أخطائهم ليعودوا إليكم إن أخطأوا حتى تهدوهم لطريق الصواب بالتعقل و الحكمة و التفهم و الاستيعاب لأنهم بالنهاية صورة عنكم و عن مكنوناتكم و أحلامكم لأنهم أبناؤكم و مسؤوليتكم أمام الله و المجتمع.