بقلم: نعمة الله رياض
إنها ليلة رأس السنة ، الاحتفالات تعم كافة المجتمعات ، الغنية والفقيرة ، المتدينة والتي بلا دين ، الشباب وكبار السن وعدد كثير من الأطفال .. وصل رجل الأعمال الكبير فؤاد السويفي وزوجته الحسناء سعاد في سيارتهما الفارهة إلي الفندق الفاخر ، حيث تعود هو وأصدقاؤه من رجال الأعمال الاحتفال بليلة رأس السنة فيه ، توجها إلي القاعة التي خصصت لهم مع بقية الأصدقاء ، كانت القاعة مليئة بالموائد الصغيرة والمقاعد الفاخرة ، وفي جانب القاعة مدت طاولتان متلاصقتان عليهما مفرش كبير اصطفت عليه أطباق وصحون وأكواب وأطقم سكاكين وشوك وملاعق ، بينما زينت جدران القاعة بالمصابيح الملونة المتلألأه وبالورود والبالونات ،وفي صدر القاعة جلست فرقة موسيقية تعزف الحاناً شرقية وغربية ، كان يمكن سماع أصوات الألعاب النارية والمفرقعات وأبواق السيارات ومشاهدة المحتفلين وهم يرقصون في الشوارع المحيطة.. كان في استقبال فؤاد خالته المسنة ابتسام التي تكفلت برعايته وتربيته بعد وفاة والديه ..احتضنته وقبلته ورحبت بحرارة بزوجته سعاد .. خصصت مائدة لفؤاد وسعاد في الصف الأمامي بالقرب من الفرقة الموسيقية ، ووزعت علي الموائد زجاجات المياه والمرطبات والمقبلات والمكسرات ، وطافت المضيفات توزعن هدايا العام الجديد علي المدعوين .. قبل أن يحين منتصف الليل بقليل ، انبري قائد الفرقة الموسيقية يذيع بالعد التنازلي الوقت المتبقي .. بعد إطفاء أنوار القاعة ، وعندما حانت الساعة الثانية عشر أضيئت الأنوار معلنة بدء عام جديد وسط تهليل المحتفلين وتقبيل بعضهم بعضاً .
تم إعداد مائدة العشاء العامرة بالمشويات وشرائح اللحم والديوك الرومية والكفتة وصواني الأرز بالمكسرات والخضروات المسلوقة والمحاشي والسلطات المتنوعة، وعلي رأس المائدة وقف طاهي يقطع شرائح من فخذ خروف مشوي موضوع علي صينية ضخمة مزينة بأغصان البقدونس .. بعد الانتهاء من الطعام، توجه المحتفلون لطاولة وضع عليها صواني من الحلويات الشرقية والفواكه والكعكات.. بعد العشاء عاد المحتفلون إلي موائدهم ليتابعوا الفرقة الموسيقية التي عزفت موسيقي مصاحبة لراقصة شرقية جذابة، ثم قدمت عددا من المطربين المعروفين وهم يشدون بأغنياتهم الحديثة .. بعد ذلك جاء وقت الرقصات الزوجية ، فتوافد علي حلقة الرقص أزواج من الرجال والنساء ، طلب فؤاد من سعاد أن يرقص معها في الرقصة الأولي ، أخذ بيدها الدافئة وذهبا إلي حلقة الرقص ، نظر إليها مبتسماً وسعيداً بمصاحبتها ، كأنه يراها لأول مرة !! نظر الي عينيها الواسعتين البنيتين وشعرها الطويل الناعم الأسود ، وإلي تورد خديها وقوامها الممشوق والمتناسق، كانت ترقص معه بخفة الفراشة ، من المدهش حقاً انها رضيت به كزوج وهي أصغر منه بأكثر من خمسة عشر عاماً !! ، كانت لحظات حياتهما معاً مثل وميض النجوم ، شعر أثناء رقصهما معاً أنه فخور وسعيد ، فخور بجمالها وسعيد لأنها تخصه وحده ، كانت تريح رأسها علي كتفه وتضحك بصفاء ضحكات أنثوية جذابة لتعليقاته المرحة والساخرة، كان وجهها الفائح عطره في الهواء قريباً جداً من وجهه.. شعر بمد مفاجئ من النشوة يتدفق إلي قلبه، والرغبة العارمة في الاختلاء بها ، عندما تذكر لحظات من حياتهما الحميمة .. كان يود أن يذكرها بتلك اللحظات ، وان يجعلها تنسي سنوات وجودهما الباهت معاً مشغولاً بعمله وصفقاته .. في هذه الليلة سيهربا من حياتهما وواجباتهما اليومية ومن المنزل والأصدقاء ، وينطلقا معاً متوهجين جامحين إلي علاقة جديدة ..أسرعت دقات قلبه في الخفقان لإبتهاجه وسروره ، حتي انه كان غير قادر علي تناول الطعام من فرط سعادته ..
مرت نحو ثلاث ساعات من مطلع السنة الجديدة ، عندما تقدمت فجأة لقائد الفرقة الموسيقية فتاة ذات وجه متورد وثوب سهرة بنفسجي اللون وطلبت أن تغني علي أنغام الفرقة أغنية لمطرب راحل مشهور وقالت لقائد الفرقة : صحيح أن الأغنية حزينة في مناسبة كهذه ، ولكني متأكدة أنها ستحوز إعجاب من يقدرون الفن الأصيل .. وافق قائد الفرقة بعد إستشارة المدعوين الذين رحبوا بها بالتصفيق .. بدأت الفتاة الغناء وكانت تشدو بإتقان مقاطع الأغنية وفي صوتها بحة أضفت الكثير من التوهج علي الموسيقي والكلمات المعبرة عن الأسي ، تقول كلمات مطلع الأغنية :
سألني الليل بتسهر ليه ؟ مادام قلبك صبح خالي .. سهرت ياليل أنادي عليه وأعيد الذكري علي بالي .. رجعت بفكري للماضي وأيام الهوي الحلوة ، لقيت قلبي في هواه ماضي ، يعيد الحب والنجوي …
عند انتهاء الأغنية ، صفق المدعوون بحرارة ، لكن فؤاد لاحظ أن زوجته سعاد تبكي بحرقة وبدموع غزيرة ، عندما سألها فؤاد عن سبب بكائها ، طلبت منه بإصرار أن يعودا فوراً إلي المنزل !! .. سلم فؤاد علي خالته إبتسام وودعها
متمنيا لها السعادة وطول العمر في السنة الجديدة كما هنأ أصدقائه قبل أن يغادر الفندق، قاد فؤاد سيارته والي جانبه جلست سعاد بدون ان ينبسا ببنت شفه .. فتح فؤاد باب المنزل وقد هب نسيم الصباح النفاذ عليهما، توجها لغرفة النوم ، جلس فؤاد علي الفراش بينما وقفت سعاد أمام المرآة تمشط شعرها.. كان يود ان يقترب منها ويقبلها قبلة دافئة ويحتضنها بشوق، ولكن لفرط ما بدا علي وجهها من إرهاق وأثار الدموع علي خديها ، آثر الصمت وقال لنفسه : لا لم تحن اللحظة المناسبة بعد .. فلابد ان اري بعض الرغبة في عينيها علي الأقل .. سألها :- لماذا تبكين كل هذا البكاء ؟ ساد الصمت لعدة ثواني قالت بعدها : لقد ذكرتني الأغنية التي ادتها تلك الفتاة ( سألني الليل) بشخص كنت علي علاقة صداقه به قبل ان أتزوجك .. تعكر وجه فؤاد واجتاحه غضب أطفأ نيران الشهوة في عروقه .. سألها بسخرية : – من هو هذا الشاب ؟ ردت قائله :- كان شاباً يعمل في شركة للسياحة ، كان رقيقاً جداً ما زلت أتذكر وجهه بعيونه السود وشعر رأسه المسترسل .. تابع أسئلته الإستجوابية – كنت مغرمة به أليس كذلك ؟ – لم تتعدي علاقتنا الصداقة وقد اعتدنا الخروج معاً للنزهة او تناول المشروبات .. – وما هو سبب موته ؟
- لقد أصيب بحمي شديدة ومات في خلال شهر واحد فقط ، ولم يتعدي عمره الخامسة والعشرين .. شعر فؤاد بخيبة أمله لاستحضار ذكري شخص من بين الأموات ، أمسك بيدها الدافئة وسألها :- من الأسف أن يموت وهو بعد شاباً .. ألم يستطع الصمود أمام المرض ؟ قالت سعاد :- اعتقد انه مات من اجلي !! شعر فؤاد بالصدمة لهذه الإجابة ، لكنه ربت علي يدها الدافئة بهدوء وقال :- كيف ذلك ؟
قالت :- حدث ذلك في فصل الشتاء ، كان وقتئذ مريضا جداً وغير مسموح له بالخروج ، وقيل انه يحتضر، المسكين كان متيما بي ، وكانت حالته تزداد تردياً
حتي أنهم لم يسمحوا لي بزيارته .. تنهدت سعاد ثم تابعت :- ذات ليلة وفي وقت متأخر ، سمعت طرقاً ضعيفاً علي باب منزلي، فتحته وإذا بصاحبي المسكين واقفا مرتجفا من أعلي رأسه حتي أخمص قدميه ، طلبت منه بإلحاح ان يعود لمنزله فوراً وحذرته انه قد يموت بسبب تصرفه المتهور هذا ، لكنه قال لي انه لا يريد ان يعيش .. عاد الي منزله وبعد قرابة اسبوع أسلم الروح .. ارتمت علي الفراش ودفنت وجهها في الوسادة وراحت تنشج .. ترك فؤاد يدها تسقط بهدوء علي الفراش وسار إلي النافذة ، أما هي فاستغرقت في النوم .. تأملها فؤاد بخصلات شعرها المتموجة والي شفتاها المضمومتان والي خديها المتوردتان ، إذاً كان لها في الماضي علاقة عاطفية .. رجل مات من أجلها .. فكر في مدي ضآلة الدور الذي يمثله هو كزوجها في حياتها ، لم يتوقف كثيرا عند هذه الفكرة ، فمعظم النساء يحبون في حياتهن رجلاً واحدً فقط لحد التفضيل المطلق ، ويعيشون تجربة عاطفية واحدة تسيطر عليهن حتي النخاع ، مهما عرفوا أو ارتبطوا برجال آخرين بعد ذلك .. لقد أقفلت زوجته قلبها لسنوات عديدة علي صورة عيني حبيبها وهو يصرح لها بأنه لا يريد ان يعيش .. عرف ان مثل هذا الشعور هو ما يجب ان يسمي الحب .. انحدرت دمعتان علي خديه ، وتخيل وهو ينظر من النافذة أنه رأي طيفا لشاب يقف في حديقة المنزل .. فكر في خالته المسكينة إبتسام ، هي أيضاً ستصبح طيفاً يلتحق بطيف هذا الشاب العاشق ، عرف ذلك من تلك النظرة المنهكة علي وجهها .. بل انه أقترب بخياله من منطقة تقطنها حشود كثيرة من الأطياف كانوا ينتقلون الواحد تلو الآخر ، من العالم المتماسك، ذلك الذي رعاه هؤلاء الأموات وعاشوا فيه ذات مرة ، الي عالم رمادي مليء بالأطياف ..
تمدد بحذر تحت الغطاء بجانب زوجته وهو ينصت إلي دقات ساعة الحائط الرتيبة ، وراح في سبات عميق …