بقلم: سليم خليل
تعتبر بلاد بوليفيا حاليا من البلاد الفقيرة في وسط أميركا الجنوبية ؛ لكنها كانت في القرن السادس والسابع عشر مركز تجاري عالمي وكانت مدينة بوتوزي المرتفعة ٤٠٠٠ متر عن سطح البحر في جبال الأنديز من أشهر المراكز التجارية في العالم . زوٌدت هذه المدينة الغنية بمناجم الفضة، العالم ، بالفضة المعدن الرئيسي لصك العملات المعدنية .
يحدثنا التاريخ عن -الأب الياس الموصلي- كاهن من الموصل في العراق أنه طلب السماح من ملكة أسبانيا – ماريانا من أصل نمساوي – للذهاب إلى مدينة بوتوزي في بوليفيا – المستعمرة الأسبانية في حينه – حيث تواجد أكبر أثرياء تجار العالم ؛ لجمع تبرعات وحسنات يستعملها لشراء أسلحة تحمي طائفته المسيحية من صراع السيطرة بين الحكام الأتراك المسلمين السنة والشيعة سكان البلاد. استعمل الأتراك المدافع الحديثة الاختراع لقصف الشيعة وكانت الطائفة –الآشورية / السريانية – متواجدة في المنطقة الفاصلة بين طرفي الصراع. طلب الكاهن السماح من الملكة الكاثوليكية لأن طائفته وكنيسته – الآشورية/ السريانية – لم تكن مرتبطة بالكنيسة الكاثوليكية الأسبانية التابعة للبابا في روما – إيطاليا.
بدأ التنقيب والإستثمار في بوليفيا المستعمرة الأسبانية عام ١٥٤٥ وكانت جيوش العمال من السكان الأصليين – الأندييان – يعملون في المناجم لقاء الغذاء ومشروب البيرة وورق الكوكا . عندما وصل الكاهن إلياس الموصلي إلى بولوزي بعد مئة عام من مباشرة الاستثمار كانت المنطقة في أوج ازدهارها وكانت مناجم المنطقة تزود العالم أجمع بنصف ما يحتاجه من الفضة ؛ وفي ذات الوقت كانت تصك العملات الفضية للكثير من البلدان.
كانت الأسواق التجارية في بوتوزي مزدهرة وزاخرة بالبضائع الثمينة مثل أرقى أنواع الملبوسات من الحرير والكتان؛ والأواني الصينية من البرسلان الزجاج من فينيسيا / إيطاليا؛ الأحذية والبضائع الجلدية من روسيا ؛ أدوات مختلفة من اليابان ؛ اللوحات الفنية من هولندا وبلجيكا؛ مجموعات من الكتب الثقافية من مختلف المصادر ؛ والعاج المحفور برسوم خلابة منحوتة في الصين والفيليبين ؛ المجوهرات المرصعة بالألماس من الهند ، المرجان من بورما والزمرُد من كولومبيا واللؤلؤ من جزر الكاريبي ؛ البهارات المختلفة من الجزر العديدة في المحيطات ؛ أما الحلويات من اللوز المسحوق والمطعًم بمختلف النكهات فكان من أسبانبا . كانت هذه السلع تشحن بحرا عبر الباسيفيك والأطلسي إلى الشواطئ ثم تنقلها إلى بوتوزي عربات تجرها بغال إلى جبال بوليفيا المرتفعة وأسواقها المزدهرة التي زارتها أثرى نساء العالم بألبستها الحريرية وأحذيتها المرصعة بالذهب والفضة والأحجار الثمية .
مقابل هذا الازدهار كانت العبودية اليد العاملة المنتجة في صهر الفضة وتنقيتها بالزئبق من المكسيك ولم يكن هناك أي حدود للتلوث والحفاظ على البيئة فانتشرت السموم في الأنهار والغازات السامة في فضاء المنطقة وأصبح التلوث خطيرا على صحة الجميع؛ كما أن غابات بكاملها قطعت لصهر الفضة وصك العملات المعدنية فتصحرت المنطقة وهاجر من بقي على قيد الحياة من السكان الأصليين القاطنين في الغابات ومناطق المناجم ليصبحوا لاجئين في الجوار .
في تلك المرحلة كانت اسبانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس .
في عام ١٥٧٥ أمر الإمبراطور فيليب الثاني بتطوير المنطقة وتطوير إنتاج الفضة وتم بناء السدود وشبكة أقنية لتزويد القصر الإمبراطوري بالطاقة المائية واستقطبت هذه المشاريع العمال والتجار والمغامرين العصابات والمقامرين وتجار الجنس من كافة أقطار المسكونة ؛ وهذا ما شجع القس إلياس الموصلي ليغادر العراق إلى بوليفيا ليجمع التبرعات لشراء وسائل دفاع ليحمي طائفته الآشورية / السريانية من الفناء .
من الازدهار إلى الانهيار.. انتشرت الجريمة وتهريب الفضة والفساد والتلاعب في عيارات خلط الفضة بالمعادن الأخرى للعملات فأخذت الدول ترفض استلام طلباتها من العملات المعدنية ولم يعط الإمبراطور الاهتمام الكافي بالنظام لأن أسبانيا كانت في حروب دائمة للتوسع ولإخماد الثورات وعلى جبهات كافة المستعمرات التي لا تغيب عنها الشمس؛ كما أن الإمبراطورية دخلت في مشاريع بناء مكلفة وغير منتجة .
لم يمر وقت طويل حتى بدأت المنافسة الاستعمارية من بريطانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى ومعها توسع الإمبراطورية العثمانية في آسيا وشرق أوروبا وشمال أفريقيا ؛ ثم استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا العظمى وانتزاع عدد من الولايات من أسبانيا مثل كاليفورنيا وفلوريدا وغيرها ؛ ولم يمر فترة طويلة في نهاية القرن الثامن عشر عندما اجتاحت جيوش نابليون بونابرت الفرنسية أسبانيا؛ ثم في مطلع القرن التاسع عشر عام -١٨٠٥- تحالفت بريطانيا والولايات المتحدة ضد أسبانيا وحربهم البحرية الشهيرة – ترافالغار – التي دمرت الأسطول البحري الحربي والتجاري الأسباني .
بعد هذه الخسائر الهائلة انهارت الإمبراطورية الأسبانية وانتقلت أكثر المستعمرات إلى سيطرت الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى التي اشتهرت بأن الشمس لاتغيب عن ممتلكاتها .
أما مصير بوليفيا وأكثر بلاد أميركا الجنوبية؛ بقيت تتراوح بين الاستقلال الكامل وضغوط سيطرة الولايات المتحدة حتى الآن واندلعت ثورات عديدة أخمدتها الولايات المتحدة وكانت النتيجة إنعام وجود حكومات مستقرة ومستقلة تضع برامج تنمية لرفع مستوى حياة سكانها وهذا ما نراه الآن في زحف مئات الآلاف من السكان الجياع باتجاه الشمال إلى الولايات المتحدة بحثا عن الغذاء والعمل ومقابل هذا الزحف البشري تقوم الولايات المتحدة ببناء آلاف الكيلومترات من الجدران لمنع دخولهم إلى أراضيها حيث القوانين المدنية والإنسانية تمنح كل من يدخل أراضيها نوعا من الحصانة وحق اللجوء والإقامة .