بقلم: د. خالد التوزاني
لم يكن الغرض من الحوار الديني، ذلك الحوار العقائدي الذي يستهدف إثبات صحّة أو بطلان ما يعتقده الآخر، أو إثبات التفوق عليه، بقدر ما يهدف هذا النوع من الحوار إلى بناء ثقافة احترام الاختلاف بالدرجة الأولى وتأسيس جوارٍ حسنٍ مع الآخر المختلف، فالإسلام مثلاً اعترف بأهل الكتاب، وهم أهل الديانات السماوية، ودعا المسلمين إلى احترام الخصوصيات العقائدية لأتباع تلك الديانات، بل دعا الإسلام إلى حُسن الجوار والتعايش مع الآخر، وتجنّب الإكراه الفكري والعقدي، حيث عدَّ الإسلام إكراه الناس وإلزامهم اعتناق الدّين بالقوة، ظلماً وعدواناً، فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” ، فالحق واضح لمَنْ شاء أن يبحث عنه، ولا يحتاج المرء إلى أي ضغطٍ وإلزامٍ ليعتقد ما لا يقتنع به وما لا يريده، وهذا منتهى احترام إرادة البشر، وحريتهم في الاختيار، ولذلك “فالحروب المسماة زوراً بالحروب الدينية ما هي إلاًّ حروب أنظمة ومصالح قُيّدت باسم الدّين” ، وأُلبِسَتْ لباس القداسة، لتمتلك الشَّرعية.
إنَّ مِن مقاصد الأديان عموماً تحقيق التَّعارف والتّواصل بين النّاس، وإقامة المواثيق الإنسانية والاجتماعية لإرساء نوع من الأمان الدّينيّ، فيتمكّن أتباع كل ديانة من التّواصل والتّفاعل المفضي إلى اختيار الأفضل من النّظم الاجتماعية والأعراف الدّولية التي تساعد على فرض الاحترام بين الجميع وضمان حقوق المستضعفين والأقلّيات عبر العالم، من خلال نظام قانونيّ مُلزمٍ للجميع يضمن حرّية التدين، وتدبير المصالح الدّينية والدّنيوية وفق معايير الانتفاع المشترك والتوزيع العادل للثروات؛ سواء تلك التي تتعلق بالثروات المادّية بما في بطن الأرض من خيرات، وما أنتجته الحضارة المعاصرة من اختراعات ومبتكرات، أو ما تعلّق بالثروات اللامادية المرتبطة بحصيلة الأفكار والتراث وقوانين فَرض الاحترام، وتمكين الإنسان من تعليم جيّد وصحّة وترفيه واستمتاع ببعض المباحات، في سياق التوازن بين الرّوح والجسد، وتمكين الإنسان من فُرص النجاح والترقي وفق قاعدة الاستحقاق وبذل الجهد والتضحية والعطاء، وغيرها من قيم العصر والتي تنتعش في البيئات المتقدمة والمجتمعات المتحضّرة، فالوعي الدّيني ينبغي “أن ينفتح على أولويات الدولة الدستورية؛ أي القبول بالمفهوم القانوني للتعددية السياسية التي تتسع للديني وغير الديني” ، من أجل القضاء على كل مظاهر التعصّب الديني أو التمييز على أساس المعتقد والمذهب والانتماء الطائفي.
في غياب الحوار الجادّ والصَّادق بين الأديان، وبتعبير آخر، عندما يتم اختطاف الحوار والاستفراد به، نصبح أمام الاستعلاء أو التطرّف والتَّشدّد وربما الإلحاد والإساءة للأديان، أو الانحلال والتَّساهل كنوع من الإلحاد المضاد، وفي تلك الحالات ستعاني البشرية من الوضع المتأزّم، لأنّ أسوأ الانتهاكات البشرية تُرتكب باسم الدّين، هذا ما أثبته التاريخ والأحداث والوقائع، وليس استدعاء هذه النتيجة محاولة لشيطنة الدين، أو المساس بالإيمان، ولكننا “أمام حقائق دامغة تقول بوضوح أنَّ جلّ العنف الذي عرفته البشرية وأشرسه، كان الدّين والدّفاع عنه العنوان الأبرز لهذا العنف” ، والملاحظ في عصرنا أيضاً أنَّ دائرة التَّكفير قد اتسع محيطها، لتشمل أتباع الدين الواحد قبل أن يشيع التَّكفير بين باقي أتباع الأديان الأخرى، فكان لابدّ من بحث روح الديانات وهي صناعة الحياة وليس صناعة الموت، وفرض احترام الأديان بسنّ قوانين ملزمة للجميع، تكافح ضد كل أشكال التّمييز ونبذ خطاب الكراهية والعنف..، إنَّ أوّل كراهية أنتجَتْ عُنفاً في العالم، كان لها سنَدٌ ديني، وهي حادث قتل هابيل على يد قابيل، “ومُنذئذٍ وهاجس ضبط الكراهية، وفق معايير سماوية أو وضعية، ولكن بقدرٍ قليل من النجاح، إذْ إنَّ ضوابط الكراهية أصبحت هي نفسها حضّاً عليها ومصدراً رئيساً من مصادرها، ومبرّراً أو مسوّغاً لها أيضاً.. كما تؤسّس السرديات الدينية لكراهية مقدّسة أو عنف مقدّس، ومفتاح الجنة هو الولاء من جهة والبراء من جهة أخرى، وجهاد الأنا وجهاد الآخر، جهاد الأنا بمعنى مقاومة النفس الأمّارة بالسوء والشك والكفر، وجهاد الآخر بمعانٍ عديدة منها عدَّهُ موضوعاً للدعوة والهداية أو الهيمنة والسيطرة، أو مواجهته بالقوة بحدّ السّيف” ، وهنا نلمس تعقّد ظاهرة الكراهية وصِلتها بالأديان، “إنَّ الأسباب الدينية شكّلت أبرز عناوين العنف، ولعلّ العنف المنطلق من خلفيات دينية هو أكثر أشكال العنف شراسة وضراوة” ، حيث تتطور الكراهية إلى ثقافة عنف وتوحّش وإبادة، ولا تنقضي هذه الكراهية بقتل الآخر العدو، وإنما قد تصل في كثير من الأحيان إلى حد التّمثيل بجثث الضحايا والتشهير بهم، وهو ما نراه في كثير من الأحداث الدولية، ويزيد من تفاقم هذا الوضع هيمنة سياسة تسلّطية أحادية التفكير ومتمركزة حول الذات، تمتلك شعوراً مضمراً أو صريحاً بالتفوّق، مثل عقلية الفرقة الناجية، وشعب الله المختار، وصفوة الصّفوة، وأهل الله وخاصّته، وعِلية القوم، والخاصَّة مقابل العامة، وغير ذلك من ألفاظ التّعالي وفرض الهيمنة على الآخرين عبر العُنف اللفظي الذي سُرعان ما يتحوّل إلى عنف مادّي سِمَتُه القهر الممارس على المخالفين، إنَّ العنف الديني “يبدأ بإعداد امتلاك الحقيقة المطلقة، مُروراً برفض الآخر وعدم الاعتراف به، وتالياً إقصائه أو تهميش دوره، أو التَّمييز على أساس ديني، فادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، يتبعه الاعتقاد بالاصطفاء، والاصطفاء يولّد الاستعلاء، والاستعلاء بيت القصيد في كل عنف وإرهاب” ، والمؤسف أن يصدر هذا العنف من بعض المنتسبين للتدين والممارسين للعبادة بكثرة، مع أنَّ “كثرة العبادة لا تُعطي الإنسان الحق في أنْ يتطاولَ على خلق الله بعبادته أو توهّم عبادته، فالعبادة هي التي تكون مقرونة بغاية الخضوع والتذلل لله ولا تورّث استكباراً على خلق الله، فأوّل ذنب عُصيَ به الله، استكبار إبليس على آدم، فاغترّ بعبادته وعلمه وأصله، فكان من الملعونين، فالنّفس وأهواؤها قد تنتصب للإنسان إلهاً من دون الله، فيطيعها وهو يعتقد أنّه يطيع الله” ، كما قال تعالى: “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ” ، فالوهم الكبير هو أن يوقن الإنسان أنه على الصراط المستقيم، والطّامة الكبرى أن يعتقدَ أنَّ غيره على ضلالة، فيقوم برفع شعارات دينية تبدو بريئة وصادقة، ولكنها تُخفي وراءها مشروعاً سياسياً واضحاً، سواء بقصد وتخطيط، أو بدافعٍ من جهات أخرى هي التي خَطّطتْ ودَبّرتْ عملية تحويل الدين إلى سياسة، بل واقترحت الشعارات التي سيتم رفعها، ومنها شعار الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، والإحسان إلى الفقراء بتوزيع أموال الزكاة بعد جمعها من الأغنياء، وتطبيق شريعة الله، وإقامة دولة الخلافة.. وغيرها من الشِّعارات التي تخفي وراءها طموحاً نحو سلطة دينية تمهّد لسلطة سياسية، وخاصة عندما تتضافر عوامل اقتصادية واجتماعية ونفسية؛ منها “غياب قنوات الاتصال والتواصل، التغيرات الديمغرافية، الفقر، التعبئة والتحريض، التهميش السياسي والقمع الممنهج وغياب منظومة العدالة بكل أبعادها” ، داخل بعض المجتمعات التي تعاني تخلّفاً واضحاً، فيجد العُنف الدِّيني في هذا الواقع المتأزّم أرضاً خصبةً للنُّمو والتكاثر، فالغضب الذي يختزنه الجمهور من واقع التهميش والفقر والجهل، يجعل هذا الجمهور قابلاً للانفجار في أيّة لحظة، والمعتقد الدِّيني هو الأكثر قدرة على إشعال فتيل الغضب وتحويله إلى عنف مدمّر، لأنه في نظر المتطّرف الدِّيني سبيل الخلاص وإنقاذ الناس من الظلم المسلّط عليهم، فيصبح ذلك بمثابة جهاد مقدّس ودفاع مشروع لتحقيق العدالة الإلهية.