بقلم: د. خالد التوزاني
إنَّ ما أسدته العالِمةُ الجليلة الأستاذة الدكتورة سعيدة العلمي للجامعة المغربية وللبحث العلمي وخاصة في تخصص الدراسات الأندلسية والأدب المغربي، يصعب الإحاطة به، في ندوة أو يوم دراسي أو حفل تكريم واعتراف بمنجزها، حيث يستعصي ما قدّمته طيلة عقود على الحصر والعدّ، خاصة وأنَّ جهدها لم يكن منصبّاً فقط على الإنتاج العلمي المتمثل في التأليف والتصنيف والبحث والدراسة، فيكون من المتاح، ومن الممكن، كتابة ببليوغرافية دقيقة، جامعة مانعة، بكل ما صدر عن هذه القامة العلمية الرصينة والمتمكّنة، بل أنفقت عمرها في إفادة الطلاب وإرشادهم وتوجيههم والإشراف على رسائلهم الجامعية، والأخذ بيد مَنْ ناقش البحثَ ليُكمل مساره بطبع عمله وتداوله واستثماره، وكانت أياديها البيضاء وافرة وجلية في العديد من مجالات البحث الجامعي والتكوين الأكاديمي؛ فقد أسّست مركز الدراسات الأندلسية المغربية، ووحدة الدكتوراه: تحقيق تراث الغرب الإسلامي، بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، بفاس، وغيرها من المراكز العلمية ووحدات البحث والتكوين، كما شاركَتْ في مؤتمرات علمية داخل المغرب وخارجه، وقد نشَرَتْ العديد من البحوث والمقالات، ومن مؤلفاتها الذائعة الصّيت، تقديم وتحقيق كتاب: روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام، لأبي عبد الله محمد بن علي بن الأزرق الغرناطي (ت 896هـ)، وقد صَدَرَ عن منشورات كلية الدعوة الإسلامية بطرابلس، ليبيا، عام 1999، أي قبل عشرين عاماً، وجاء في جزأين، حيث ضمَّ هذا الكتاب قرابة ألف ومائتي صفحة، ذكرَتْ الدكتور سعيدة العلمي في مقدمته: “ولقد كانت الصلة وثيقة بيني وبين المكتبة الأندلسية لسنوات ليست بالقليلة عرفت خلالها بعض معالم الفكر الأندلسي وبعض أعلامه..”. مما يوضح بجلاء عمق الاهتمام بالدراسات الأندلسية منذ فترة مبكرة، وهو ما دفعها أيضاً إلى اختيار الأدب الأندلسي موضوعاً لرسالتها لنيل الدكتوراه، سنة 2002، تحت إشراف الدكتور محمد مفتاح، وقد نُشِرَت في كتابٍ يحملُ عنوان: الأسُس النظرية والتطبيقية للدراسات اللغوية والنحوية في القرن التاسع الهجري بالأندلس ، صدر عام 2006، بمكتبة المعارف الجامعية، في حوالي خمسمائة صفحة، وقد كتبَتْ في تقديمه: “ورغم ما كُتِب عن تاريخ الفكر والأدب في الأندلس، وما قُدِّمَت من دراسات عديدة، فإنَّ درب البحث مازال في حاجة إلى المزيدِ من العطاء، وخاصةً في الدراسات اللغوية والنحوية خلال القرن التاسع الهجري، والتي لم يُكشَف عنها النقاب رغم ما تزخر به من تصانيف مختلفة المشارب، متنوعة المآرب”، وعندما يصدر مثل هذا القول من عالمة جليلة القدر لها باع عريض في رياض الفكر والأدب، فهذا يعني أنَّ باب البحث مفتوح على مصراعيه أمام طلاب الجامعات العربية والعالمية لاستئناف مسيرة البحث في الدراسات الأندلسية، والغوص في أعماق الأدب الأندلسي لاستخراج درره ونفائسه، وهو ما قامت به الدكتورة سعيدة العلمي تأليفاً ودراسةً وتحقيقاً، وأيضاً توجيهاً وإشرافاً، فقد كانت لا تبخل بالمعرفة أبداً، وكثيرا ما كانت تقترح موضوعات جديدة وفريدة على الطلاب، يستطيعون بخوض غمار البحث فيها تحقيق التميّز في بحوثهم الجامعية، فمناطق الظل في الحضارة الأندلسية تعرفها شبراً شبراً، وتدلّ الطلاب عليها، فتفتح بذلك آفاقاً رحبة أمامهم. من جهودها العلمية الرصينة في خدمة الدراسات الأندلسية، أطروحتها الجامعية الموسومة بـ: “الأسس النظرية والتطبيقية للدراسات اللغوية والنحوية في القرن التاسع الهجري بالأندلس”، وهي رسالة جامعية متميّزة، خاصة وأنَّ موضوعها، على الرغم من قدمه، إلا أنه يحظى بِراهِنيةٍ جديدة مرتبطة بالظروف التي تعيشها اللغة العربية في الوقت الحاضر، والتي حوصرت من كل الجهات، وتقلّصت مساحات تأثيرها، بسبب شيوع الأخطاء وكثرة التساهل في اللحن، حتى غدا الصواب مهجوراً، وأصبح الخطأ الشائع خير من صواب مهجور لا يعرفه أحد، ولذلك فإنَّ كتاب: الأسس النظرية والتطبيقية للدراسات اللغوية والنحوية في القرن التاسع الهجري بالأندلس، يعيد الصلة باللغة العربية في أصالتها وعمقها، بما اشتمل عليه من مباحث علمية دقيقة، تزخر بالعديد من المعارف اللغوية والنحوية التي تُصلح اللسان وتضيء الجنان، لما للغة من تأثير في الفكر والوجدان. والحقّ أن الباحث المنصف عندما يتأمل ما أنجزته العالمة الجليلة الدكتورة سعيدة العلمي، خلال عقود طويلة من الزمن، في مسارها العلمي والجامعي، لا يسعه إلا أن يقف وقفة إجلال وإكبار لهذه المرأة العالِمة التي تفوّقت على كثير من الرجال، حتى إنه ليصدق عليها قول القائل: لو كانت النساء كمَنْ عَرفنا لفُضّلت النِّساء على الرجال فقد أعطت هذه العالِمَةُ الجليلة للدراسات الأندلسية أبعاداً جديدة، وفتحت آفاقاً رحبة فيها، وأثمر جهدها العلمي في تكوين أجيال عديدة من الباحثين.
وللوقوف على بعض جهود العالمة الجليلة الدكتورة سعيدة العلمي، نسلط الضوء على أهم ما توصلت إليه في كتابها: الأسس النظرية والتطبيقية للدراسات اللغوية والنحوية في القرن التاسع الهجري بالأندلس.
من أهم النتائج التي خلصت إليها الدكتورة سعيدة العلمي في كتابها الموسوعة الموسوم بــ: “الأسُس النظرية والتطبيقية للدراسات اللغوية والنحوية في القرن التاسع الهجري بالأندلس”، فكرة جوهرية مفادها حرص أهل الأندلس على العناية الفائقة باللغة العربية، من خلال اهتمامهم بالنحو، الذي حظي بحظ وافر من التأليف فيه، حتى عُرِفوا بمذهبٍ خاصّ في النحو، كانت نتيجة للثورة الظاهرية على المدارس النحوية التقليدية، وخاصة مع ابن مضاء، وهي ثورة على جميع الذين جنحوا إلى القياس وإلى التعديلات، ولقد وجد ابن مضاء في النحو البصري ما يكون أهلا لأن يُقاوَم، بينما النحو الكوفي يعنى بالسماع أكثر مما يعنى بالقياس، فالمدرسة الجديدة في الأندلس قامت في مهدٍ كوفي وضِدّاً على النحو البصري.
وعلى الرغم من وجود مذهب أندلسي خاص بالنحو، تشير الدكتورة سعيدة العلمي إلى الآراء الأخرى التي تعارض هذا الوجود، كما تستعرض المعطيات المتوفرة، من أجل توفير مادة تسعف في الحسم في أصالة هذه المدرسة الجديدة، ومن جملة ما انتهت إليه، أن علماء العربية في الأندلس أمثال الراعي والقلصادي والدقون والمنتوري والبقني لم يميّزوا بين الجانب النحوي واللغوي، بل مزجوا بينهما، فاعتنوا بالمرادف، وبالمشترك اللفظي وبالاشتقاق، وبحثوا عن ضبط اللفظ وأصله واستعماله، كما اهتموا بالحروف، وعددها، وأقسامها، وصفاتها .
وقد كان اعتماد جل علماء العربية في الأندلس تحقيق بعض معاني الألفاظ عل صحاح الجوهري، ومحكم ابن سيده..، ودافعهم في كل ذلك الميل إلى تنقية اللغة بدافع المحافظة عليها، كما جاء أسلوبهم في الاستدلال متشابهاً لأنهم نهلوا من منبع واحد، فقد استدلوا بالآيات القرآنية، وبأشعار العرب وأمثالها، كما نقلوا عن أعلام اللغة والنحو أقوالهم وآراءهم من خلال مصادر متعددة، وكان لبعضهم موقف من الاستشهاد بالحديث؛ فأبو عبد الله الراعي، وأبو الحسن القلصادي لم يستدلا بالحديث في شرحيهما، وعبّرا عن مخالفتهما لابن مالك وابن خروف، ومع ذلك كانت لهما عناية بابن مالك وكتبه، ولقد اعتنى كل من ابن مالك وابن آجروم بكتاب سيبويه رغم محافظتهما على مذهب الكوفة في محاولة منهم لخلق مدرسة أندلسية مغربية ذات إضافات لما ذهب إليه والكوفيون، وما اختلف فيه البغداديون.
كما تخلص الدكتورة سعيدة العلمي إلى أنَّ علماء العربية في القرن التاسع الهجري بالأندلس، كان لهم احتفاء كبير بكتاب سيبويه وشروحه، وبتسهيل ابن مالك وألفيته، كما استفادوا من كتب النحاة المتقدمين والمتأخرين، وأكثروا النقل عنهم في مؤلفاتهم، كما نهلوا من كل المدارس النحوية: بصرية، وكوفية، وبغدادية، ونقلوا عن معاصريهم، خاصة شيوخهم من مثل: أبي الحسن ابن سمعت الأندلسي، وأبي سعيد فرج بن لب، وأبي عبد الله القيطاجي، وأبي محمد ابن جزي، وإبراهيم بن فتوح الغرناطي، وغيرهم .
وقد حاولت الدكتورة سعيدة العلمي تفسير أسباب نبوغ علماء العربية في الأندلس خلال القرن التاسع الهجري، وسعيهم نحو تأسيس مدرسة خاصه بهم، تميّزهم عن غيرهم، بكون هؤلاء العلماء قد تعمقوا في العلوم الشرعية، واكتسبوا ثقافة موسوعية شاملة، حيث اهتموا بجميع أبواب النحو، بل كانت لبعضهم إضافات وزيادات، وكانت للبعض الآخر اختيارات وتعليقات، كما تفنّن بعضهم في الجمع والاستقصاء، وكانت في منتهى الانفتاح والحرية في البحث والتفكير والتنظير، فلم يتقيّدوا بحدود مدرسة معينة، أو مذهب خاص، وإنما اعتمدوا سعة الاطلاع والنهل من معين الجميع، وإعمال العقل والنظر لإبداع الجديد، فكان مذهبهم الراسخ والمنتشر هو: التحرّر من المذهبية، وعدم التقليد أو التبعية للمدارس النحوية التقليدية، ولذلك كان ابتعادهم عن التقوقع داخل اتجاه ما، بل الميل إلى الحرية الفكرية، مع الابتعاد عن التكلف والتعليلات والتعقيدات، فكانت رؤيتهم واضحة، تميل إلى الشروح التبسيطية، ومختصرات الشروح، والمنظومات التعليمية.. والنوازل النحوية، وغير ذلك من السّمات التي طبعت المدرسة الأندلسية، وتبعاً لهذه المميزات استخلصت الدكتورة سعيدة العلمي، وجود اتجاهين أو منهجين اثنين:
منهج اجتهادي: يمثّله كل من أبي عبد الله الراعي، وأبي الحسن القلصادي، إذ لكل واحد منهما إضافات قيّمة، واستدراكات، وتتميمات.
ومنهج اختياري: يمثله كل من ابن الأزرق، والدقون، والبقني، والمنتوري، فقد عرضوا لمسائل عدة في النحو، ولأوجه من الخلاف المذهبي، واختاروا ما رأوه الأرجح والأصوب في نظرهم، ولم يقفوا عند فنّ واحد، بل كان اهتمامهم بالنحو واللغة داخل منظومات علمية متعددة .
إن كتاب: الأسس النظرية والتطبيقية للدراسات اللغوية والنحوية في القرن التاسع الهجري بالأندلس قد جاء تتويجا لمسار طويل من البحث والتكوين، وخاصة إذا استحضرنا ما يتطلبه إعداد الدكتوراه من جهد قد يستغرق عدة سنوات، وخاصة خلال العقود الماضية حيث لم يكن الانترنيت ولا الكتاب الرقمي ولا الحواسيب المتطورة التي تسهل عملية البحث والاستقصاء، فإذا انضاف إلى ذلك ندرة موضوع البحث وقلة الدراسات السابقة فيه، عرفنا حجم الجهد الذي بُذل في سبيل إنجاز العمل، وهو جهد كبير بالنظر أيضا إلى ما يقتضيه جمع المادة من معاناة ومكابدة، فالدراسات الأندلسية معظمها في حكم الضائع والمفقود، والمتداول معظمه مخطوط، ولم يخرج للوجود إلا القليل منها، مما يزيد البحث في الدراسات الأندلسية صعوبة وعناء.
إنَّ القيمةَ العلميةَ لكتاب الأسس النظرية والتطبيقية للدراسات اللغوية والنحوية في القرن التاسع الهجري بالأندلس، لا تتعلق فقط بالنتائج المهمة المتوصل إليها، ولا بتأصيل مدرسة أندلسية في النحو واللغة فحسب، وإنما تكمن أيضاً في تقديم مادة معرفية متخصصة في اللغة العربية، حيث تضمن هذا الكتاب عددا مهما من المصادر والمراجع، تنم عن مدى عمق اطلاع المؤلفة الدكتورة سعيدة العلمي، على جملة وافرة من الكتب والمخطوطات في مواضيع مرتبطة بقضايا الدراسات الأندلسية، مما وفر للباحثين والمهتمين ببليوغرافيا متخصصة تساعد على استئناف البحث.
أخيراً، إن جهود هذه العالمة الجليلة في خدمة الأدب الأندلسي، تتجاوز رصد سماته الكبرى وتوجهاته الرئيسة، وتتبع موضوعاته ومجالات اشتغاله وتأثيره، إلى تأصيل مدرسة في الفكر والإبداع والدراسة والبحث، مرتبطة بالخصوصيات الكبرى للحضارة الأندلسية، سمتها التحرّر والنزوع إلى التجديد والتطوير.