بقلم: علي عبيد الهاملي
«كل التطبيل والدعايات للحرب.. كل الصراخ والكذب والكراهية.. تأتي دائما من الناس الذين لن يذهبوا إلى الحرب».
هذه المقولة للكاتب البريطاني جورج أورويل، مؤلف رواية «1984» الشهيرة، التي جسد فيها «الأخ الكبير» طغيان النظام، وكان بطلها وينستون سميث، عضو الحزب الخارجي، يعمل موظفا في وزارة الحقيقة المسؤولة عن الدعاية ومراجعة التاريخ؛ حيث كان يقوم بإعادة كتابة المقالات القديمة وتغيير الحقائق التاريخية بحيث تتفق مع ما يعلنه الحزب على الدوام، وفق تعليمات يتلقاها موظفو وزارة الحقيقة تحدد التصحيحات المطلوبة، وتصفها بالتعديلات عوضًا عن التزييفات والأكاذيب. وهي الرواية التي لقيت رواجا هائلا عند صدورها عام 1949م، وترجمت إلى أكثر من 65 لغة، وتعرضت للمنع والملاحقة القضائية بحجة أنها عمل هدام أو ذو أيديولوجية تخريبية، واعتبرت واحدة من أهم روايات الديستوبيا.
مقولة أورويل لا تنفصل عن الفكرة التي طرحها في روايته الشهيرة تلك، والتي تجسد حقيقة أن الذين يكتوون بنيران الحروب عادة هم ليسوا أولئك الذين يقرعون طبولها ويدعون إليها ويشعلون نيرانها، وإنما هم الذين يذهبون إليها وتسيل دماؤهم في ساحاتها، ويفقد البعض منهم أرواحهم، بينما يبقى أولئك الذين قرعوا طبولها في أبراجهم العاجية، ينعمون بالحياة والسلطة، يمارسون طغيانهم، ويشعلون حروبا أخرى، يكون الخاسر الأكبر فيها الأوطان والشعوب التي تُهدر أموالها وتزهق أرواح أبنائها من اجل أحلام إمبراطورية ونزعات سلطوية، في عوالم يحكمها الشر المطلق، ليس للخير فيها مكان، يتجرد فيها البشر من الأخلاق والقيم الإنسانية العليا.
في روايته الشهيرة «الحرب والسلام» التي تدور أحداثها في بداية القرن التاسع عشر، مع اجتياح القائد الفرنسي نابليون بونابارت الأراضي الروسية، ثم انسحابه يجر أذيال الخيبة والفشل في مواجهة الشتاء الروسي القارس، بعد أن رفض القيصر الروسي ألكسندر الأول الاستسلام. في هذه الرواية الملحمية يخضع الكاتب الروسي الكبير «ليو تولستوي» أسباب الحرب النابليونية للاحتمالات فيقول: «إن المؤرخين يظهرون بتأكيد خالص أنها إهانات الدوق أولدنبرج، وخرق الحصار البري، وطمع نابليون، وعناد ألكسندر، وأخطاء الدبلوماسية… إلخ. ولو كان الأمر كذلك فقد كان يكفي لتفادي الحرب أن يجتهد تاليران في مباحثة سياسية بارعة، أو أن يكتب نابليون إلى ألكسندر بكل بساطة: سيدي أخي، إني أوافق على إعادة الدوقية للدوق أولدنبرج». هذا الاحتمال الذي يفترضه تولستوي كان يمكن له أن ينفي مسببات الحرب فلا تقع، ولا يخرج منها الفرنسيون مهزومين، ولا يخرج للدينا مصطلح «الجنرال ثلج» الذي هزم نابليون في معركة «بورودينو» التي جرت بين قوات الجيش الروسي الإمبراطوري وقوات نابليون بونابرت الغازية، ولو كان هذا الاحتمال قد تحقق ما كان تولستوي قد كتب رواية «الحرب والسلام» نفسها. هكذا وبمنتهى البساطة كان يمكن أن يتغير وجه التاريخ، وأن يفقد الأدب العالمي واحدة من الروايات العظيمة الخالدة.
وتبقى العبرة التي ربما تناسب المقام أنه على الرغم من أن معركة «بورودينو» الدموية قد انتهت بخسائر فادحة تكبدها الطرفان، إذ فقد الجيش الإمبراطوري الروسي نحو 40 ألف جندي و42 جنرالا بين قتيل وجريح، فيما قتل 30 ألف جندي فرنسي إضافة إلى 49 من كبار الضباط وفقا للروايات، إلا أن نابليون بونابرت ظل يردد على مسامع ضباطه أن «معركة بورودينو كانت الأكثر روعة ورهبة، أثبت الفرنسيون جدارتهم بالنصر، واستحق الروس أن يوصفوا بأنهم لا يقهرون»! هكذا يفكر قارعو طبول الحروب التي يقضي فيها ملايين البشر، ويعيش من يخرج منها، إذا لم تزهق روحه، جريحا أو محطم الروح والنفس والقلب.
الذين يقرعون طبول الحرب في منطقتنا هذه الأيام كثيرون، بعضهم قريب يُسمَع قرعُ طبوله بالأذن المجردة، وبعضهم تأتينا أصوات قرع طبولهم من مناطق بعيدة من العالم عبر وسائل الإعلام التي تجد في هذه الأصوات مادة خصبة لبرامجها ونشرات أخبارها، ومواضيع دسمة لمحلليها وخبرائها الاستراتيجيين الذين يستعرضون مواهبهم في التحليل وربط الأحداث والتصريحات والمواقف ببعضها ليخرجوا علينا بنذر قرب وقوع الكوارث واشتعال المنطقة أرضا وبحرا وجوا. ربما يكون هؤلاء المطبلون بعضا من الذين قصدهم أورويل بمقولته تلك، لأنهم لن يذهبوا للحرب، إذا سيظلون جالسين أمام الكاميرات يتابعون ويحللون ويصبون الزيوت على النيران كي تزيد اشتعالا. وهم بفعلهم هذا ربما يجدون لأنفسهم العذر في ما يفعلون، وقد يشكلون خطرا لكنه محدود ومحصور في تأثيرهم على من يستمع إليهم من المشاهدين واقتناعهم بآرائهم وتحليلاتهم، لكن الخطر الأكبر يأتي من أولئك الذين يقرعون طبول الحرب وهم أصحاب قرار في إشعال نيرانها. هؤلاء هم الذين يكون لقرعهم دويٌّ يصم الآذان ويثير في النفوس الفزع من مصائر مجهولة لا يعرف مداها إلا الله تعالى.
لقد شهدت هذه المنطقة من العالم على مدى العقود الماضية حروبا عدة، قرع طبولها حكام بعضهم مسكون بجنون السلطة، وبعضهم الآخر مسكون بجنون العظمة، لكن أخطرهم هم المسكونون بأحلام تصحيح مسار التاريخ الذي يعتقدون أنه قد انحرف عن مساره في لحظة من الزمن تبعد عنا مئات السنين. هذه اللحظة تجاوزها التاريخ وأحداثه، وجاءت بعدها لحظات كثيرة، تتشابه معها في الشكل وتختلف في الشخوص، ومع هذا تجمدوا هم أمام تلك اللحظة، وتجمد الزمن كله في نظرهم. هؤلاء هم الأخطر من بين كل قارعي طبول الحرب المجانين.