بقلم: د. حسين عبد البصير
تخطط وزراة الآثار المصرية العريقة لنقل المومياوات الملكية من المحتف المصري بميدان التحرير للعرض بالمتحف القومي للحضارة أو متحف الحضارة بالفسطاط. فما قصة هذا المتحف العظيم الذي يُعد أحد أهم المشروعات الأثرية الكبرى التي تقوم بها وزارة الآثار في الفترة الحالية؟
يعد المتحف القومى للحضارة المصرية أحد المشروعات الرئيسية التى تتبناها وزارة الآثار المصرية وصندوق إنقاذ آثار النوبة والمجلس الأعلى للآثار وهيئة الأمم المتحدة ممثلة فى منظمة اليونسكو. ففى عام 1978، أعلنت الحكومة المصرية عن اعتزامها بناء متحفين جديدين بالتعاون مع منظمة اليونسكو وهما متحف النوبة بأسوان ليضم بعضا من آثار النوبة التى عثر عليها أثناء حفائر الحملة العالمية لمنظمة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة التى امتدت بين عامى 1960 و1980، والمتحف الثانى هو المتحف القومى للحضارة المصرية بالقاهرة (بأرض الجزيرة – «الأوبرا حاليا»).
وفى عام 1982، قامت منظمة اليونسكو – بناء على طلب من الحكومة المصرية– بإطلاق حملة عالمية لتأسيس متحف النوبة بأسوان والمتحف القومى للحضارة المصرية بالقاهرة. وفى عام 1983، تم تشكيل لجنة تنفيذية من الخبراء العالميين من 15 دولة من أعضاء منظمة اليونسكو بالإضافة إلى المجلس الدولى للمتاحف والمجلس العالمى للمتاحف والمواقع الأثرية والمركز الدولى لدراسة الحفاظ على التراث الثقافى وترميمه والاتحاد العالمى لمعماريى المسطحات الخضراء. وفى عام 1984، أقيمت مسابقة معمارية دولية تم فيها اختيار المشروع الفائز للمعمارى د. الغزالى كسيبة. وفى عام 1998، تم اختيار منطقة الفسطاط لتكون مقرًا للمتحف القومى للحضارة المصرية. وفى عام 2000، تم عمل مسح أثرى وحفائر بالموقع. وفى عام 2002، قامت السيدة الفاضلة سوزان مبارك حرم السيد رئيس الجمهورية بوضع حجر أساس المتحف. وفى عام 2004، تم البدء فى تنفيذ مشروع المتحف. وفى عام 2007، تم نقل الآثار المختارة للمتحف إلى مخرن الأستاذ عبد الحمن عبد التواب المتحفى بالفسطاط لحين الانتهاء من إعداد وتجهيز مخازن المتحف الأساسية.
أما بالنسبة لسيناريو العرض المتحفى فى صالات العرض المتحف، فسيتم عرض مجموعات المتحف الأثرية الدائمة فى ثلاث مناطق هى:
1.قلب المتحف:
وتشمل العرض الرئيس للمتحف الذى يبرز أهم إنجازات الحضارة المصرية فى تسلسلها الزمنى. ويستطيع الزائر من خلال هذا العرض أن يكون فكرة متكاملة عن الحضارة المصرية وأهم ملامحها الأساسية خلال عصور ما قبل التاريخ والعصر الفرعونى والعصر اليونانى-الرومانى والعصر القبطى والعصر الإسلامى والعصر الحديث والعصر المعاصر.
2.العرض الموضوعى:
ويشمل ستة موضوعات رئيسة:
فجر الحضارة
ويستطيع الزائر من خلاله التعرف على النواحى التفصيلية لقيام الحضارة المصرية فى عصورها المبكرة والتحول الكبير الذى طرأ على مظاهر حياة الإنسان المصرى منذ أن عرف الاستقرار وتعلم الزراعة والرعى وتكونت الأقاليم والمدن حتى بداية تكوين ملامح الدولة المصرية.
النيل
ويتناول بالتحليل والعرض قصة نشأة نهر النيل فى مصر وكيف كان ومازال العمود الفقرى للحضارة المصرية ووفَّر لها نعمة الاستقرار والاستمرار وحول الإنسان المصرى إلى منتج للطعام. واستخدم المصريون النيل فى الزراعة والصيد والنقل. وقامت على جانبيه ودلتاه أعظم حضارات العالم وأقدمها التى مازالت مستمرة إلى الآن. ويتعرض لقصة تحول النيل من آن لآخر وفروعه -التى أصبحت فرعين بعد أن كانت سبعة أفرع- بداية من إنشاء الخزانات والسدود للإفادة من فيضان النيل وصولا للسد العالى.
الكتابة
ويعرض أحدث الاكتشافات الأثرية ويدحض المزاعم القائلة بأن الكتابة المسمارية أقدم الكتابات؛ إذ أثبتت الاكتشافات الأثرية فى أبيدوس فى صعيد مصر أن المصريين توصلوا للكتابة المصرية قبل المسمارية بأكثر من ثلاثمائة عام. ويتناول براعة المصريين وتفوقهم فى العلوم. ويؤكد على ريادة مصر فى ذلك. ويلقى الضوء على مجالات كان الفضل والبراعة والسبق والتفوق فيها للمصريين كالطب والفلك والرياضيات وعلوم التحنيط.
الثقافة المادية
ويعرض الشواهد المادية الممثلة للحضارة المصرية كالعمارة وتطورها منذ عصور ما قبل التاريخ إلى عصرنا الحديث على اختلاف أنواعها كالعمارة المدنية والحربية والدينية والجنائزية. كما يتناول قصة الفنون المصرية من نحت وتصوير وحلى وأدوات زينة والأدوات الموسيقية والتعبيرية منذ أقدم العصور إلى الآن.
الدولة والمجتمع
ويتناول نظام الحكم المصرى وتعايشه مع المجتمع؛ إذ أثبتت الشواهد أن أقدم حكومة مركزية فى العالم نشأت فى مصر. وقامت العلاقة بين الحكومة والمجتمع على العدل والمساواة. وساهم المجتمع المصرى فى نهضة ورقى حضارته من خلال منظومة متكاملة من القيم سادت المجتمع منذ الأزل إلى الآن وأثرت بشكل كبير فى صنع الشخصية المصرية. وكان ومازال دور المرأة عظيما فى مجتمع وحضارة مصر، وكان للحضارة المصرية السبق فى إدراك أهمية دور المرأة فى تحقيق التقدم الحضارى؛ إذ شاركت المرأة جنبا إلى جنب مع الرجل فى بناء تلك الحضارة العظيمة. ويوضح أهم العادات الاجتماعية كالأعياد والمناسبات والتعليم والقضاء والضرائب والجيش والشرطة والتنظيمات عبر العصور.
العقائد والفكر
ويعرض أهم المعتقدات المصرية التى تؤكد أن المصريين من أكثر شعوب الأرض إيمانًا وتسامحًا مع العقائد الأخرى. ويؤكد أن المصريين أبدا لم يكونوا عبدة تماثيل أو أفراد بل كانوا على إيمان قوى بقوة الإله وقدرته التى تصوروها فى أشكال عدة. وجاءت فلسفة المصريين وتفسيرهم لنشأة الأرض متقاربة إلى حد ما مع ما ورد فى الكتب السماوية. وتمسك المصريون لسنوات طوال بعقائدهم وإيمانهم فى مواجهة الغزو الأجبنى للأرض المصرية. وصارت مصر مأوى للمسيحية التى انتشرت فيها وتعايشت بسلام مع معتقدات المصريين، بل وجد المصريون فيها قدرا كبيرا من معتقداتهم. وكانت تلك نفس السمات التى انتقل بها المصريون إلى الإسلام. ويتناول هذا القسم العادات والفنون الشعبية المصرية منذ أقدم العصور إلى الآن بأسلوب يجعل المصرى يعيد اكتشاف نفسه من جديد ويجد نفسه فى تواصل كامل مع أجداده الذين صنعوا مجد هذه الحضارة، ويجعله يعى جيدا ضرورة مواصلة هذا المشوار الحضارى الطويل بالحفاظ عليه والارتقاء به.
- المومياوات الملكية:
وتمثل هذه المنطقة محور الجذب الأساسى فى المتحف؛ حيث يستطيع الزائر أن يرى ملوك وملكات مصر الذين طالما ترددت أسماؤهم على مسامعه. وتتلخص فكرة العرض فى تقديمهم بما يليق بمكانتهم الكبيرة بعيدًا عن عرضهم كمومياوات فقط. وصالات العرض مجهزة ومصممة لتأهيل الزائر للعيش فى رحاب الملوك الفراعنة العظام.
وتبلغ المساحة الإجمالية للمشروع 28 فدانًا إلى الآن ومن المخطط زيادته مساحته إلى 70 فدانًا. ويتكون المتحف من مبنى الاستقبال (الاستقبال والاستعلامات-الخدمات التعليمية-محلات المتحف-الكافتيريات والمطاعم-صالة الاحتفالات ودار للسينما ومسرح-المناطق التجارية)، ومبنى صالات العرض المتنوعة(صالات العرض الدائمة والمؤقتة -المخازن-معامل الصيانة وورش العمل-إدارة المتحف-الخدمات المتحفية) ومنطقة انتظار السيارات (للسيارات بسعة 400 سيارة-للحافلات بسعة 45 حافلة).
ومن التوسعات المستقبلية أن يشمل المتحف مكتبة عامة ومتخصصة عن آثار وتاريخ وحضارة مصر عبر العصور على أحدث النظم المكتبية والوثائقية العالمية للحفاظ على ذاكرة مصر للأجيال القادمة تكون مرجعا ومكانا لا غنى عنه للباحثين والمهتمين، وسوف تكون مفتوحة للجمهور والعلماء والباحثين والجمهور من مصر وخارجها. وأتمنى أن تحمل المكتبة اسم أحد علماء الآثار المصريين العالميين مثل الدكتور زاهى حواس، وسوف تكون المكتبة خير مكان للحفاظ على تراث علماء الآثار المصريين يضم مكتباتهم الأثرية الفريدة ووثائقهم وأعمالهم ومخطوطاتهم وصورهم وحفائرهم ومتعلقاتهم الشخصية مثل معهد جريفيث بمدينة أكسفورد البريطانية؛ إذ سوف يخصص جزء من المكتبة يوضح نشأة وتاريخ العمل الأثرى فى مصر وأبرز رموزه فى كل التخصصات. ومن المفضل أن تكون هذه المكتبة على غرار مكتبة الكونجرس الأمريكية وسوف تعقد اتفاقية شراكة وتآخٍ بين المكتبتين. وفتح المتحف أبوابه للجمهور منذ فترة حين تم الافتتاح الجزئي للمتحف من خلال توظيف قاعة العرض المؤقت بالمتحف لمعرض «الحرف والصناعات المصرية عبر العصور».
إن المتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط هو ممثل رسالة الحضارية عبر العصور باعتبار مصر هي فجر ضمير العالم الذى خرج من مصر للعالم أجمع، وبعث ونشر سحر مصر ممثلاً بذلك روح ودور مصر الحضارى عبر العصور، وكذلك عبرت الأعمال المصرية الإبداعية عبر العصور عن مصر وحضارتها منذ أقدم العصور إلى الآن كما يمثل متحفنا مصر منذ أقدم عصورها إلى زمننا الراهن.
وسوف تُنقل المومياوات المصرية من المتحف المصري في ميدان التحرير إلى المتحف المصري القومي للحضارة المصرية بالفسطاط في احتفال عالمى مهيب يليق بمصر العظيمة وحضارتها الخالدة. وسوف تكون هذه المناسبة المهمة مناسبة مهمة كي تدعو الدولة المصرية العريقة عددًا كبيرًا من الشخصيات العالمية المهتمة بمصر وآثارها وحضارتها وتاريخها العظيمة؛ وذلك كي يتم الاحتفال بنقل مومياوات فراعنة مصر الخالدين كي يستقروا في مقرهم الأبدي في المتحق القومي للحضارة المصرية حيث يتم عرض مومياواتهم في مكان جميل أشبه بمكان دفن واكتشاف مومياواتهم الرائعة في البر الغربي لمدينة الأقصر حيث يسيطر الجلال والجمال ويسود الصمت ويسيطر الخلود.
إن المتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط يمثل روح مصر الحضارية الخالدة عبر العصورة. وهذه رسالة مصر الأبدية التي لا تغيب أبدًا عن مخيلة العالم أجمع، مصر مبدعة التاريخ ومبدعة الحضارة ومعلمة البشرية جمعاء. مصر الحضارة في متحف الحضارة حيث الحضارة والتاريخ والإبداع والخلود والجلال والجمال أبد الأبدين.