الأديبة والباحثة : إخلاص فرنسيس
ها هو النيل يصحو باكراً على زقزقة العصافير، يتمايل في كسل، يخلع عنه ثوب الليل، كي يتهيّأ ليوم جديد يحمل فيه أسراباً من البشر، كلّ في طريق الحياة يسير، الاتّجاه واحد، الهدف مختلف، صوت الهدوء بدأ يتكسّر رويدًا رويدًا، وأصوات الحياة تعجّ بسيّارات وبشر ونساء ورجال، تكتحل عيونهم بسواد الليل، وقد لوحت أشعّة الشمس الحادّة وجوههم بسمرة جذابة. يتناهي لي من الضفّة المقابلة للنيل أصوات بعض الفلاحين، وهم يشقّون عباب الصباح إلى حقولهم بأغنيات الفجر، وقد بدت لي أغانٍ فرعونيّة تنساب مع النيل من وادي الملوك ومن مقابر العظماء، يخبرون بأصوات الفلّاحين قصص العشق التي عاشوها، وقصص الانتصارات والخيبات والتاريخ والحروب، كلّها تناقلتها الأرواح جيلًا بعد جيل، وما علينا الآن إلّا أن نصغي بآذان الشغف، لنسمع أجمل قصص الحبّ التي لم تكتب، بل رسموها على جدران المعابد وعلى شواهد المقابر وعلى صفحات النيل الرقيقة. أسأل ذاتي وأنا أصغي، وأرى الألوان على الجدران، كيف تناهت إليهم قصّتنا، كيف عرفوا أنّنا سنلتقي يومًا، كيف جمعوا ما بين روحين من عالمين مختلفين، بعيدين، ووضعوهما في هذه الصورة الإبداعيّة، كيف استطاعوا أن يرسموا صوتك يهبُّ عليّ، ويخاطب روحي من خلف المسافات؟
وكيف ومن أين لهم بحروف العشق المنقوشة في شريان روحك أن يغزلوا منها لي شالًا، أتدثّر به هذا الصباح بعد ليل قضيته في أحضان حبّك؟ كيف للألوان أن تكون بلون شفتيك، والنسيم الصباحيّ برائحة أنفاسك؟ وكيف لهذا الفضاء الرحب الذي يحمل روحينا أن ينقلنا من معابد الرومان إلى معابد الإغريق، وننتهي حكاية على ضفاف الأقصر. كيف أيّها الجميل الطالع من خمرة النيل، التقت روح أفروديت بروحك من هياكل بعلبك إلى معبد الكرنك؟ كيف.. سؤال أطرحه، وأسمع من بين شفتيك الجواب قبلةً على ثغري تقول: نحن منذ الأزل مكتوب علينا أن نكون معًا، يدًا بيدٍ وقلبًا بقلبٍ، مهما تباعدت المسافات. أنت هي التي حملتها روح الآلهة إلى حضني، هيّأتها عروس النيل بعد أن طيّبت جسدها ببخور الأرز، لتكون لي عروسًا، وعلى مقاسي وحسب روحي وفكري، كنت أبحث عنك قبل الأزمنة، وكنت أردّد اسمك صباحَ مساءَ تعويذةً، إلى أن استحضرتك الأرواح من تلك البلاد النائية إليّ، الى قلبي وروحي، كفّي الآن عن التساؤل، وهاتي أناملك، لأرشف منها إكسير الحياة المتدفّق إليّ من أعماق أعماقك، وأسكن داخلك، ونتّحد في رقصة لا تنتهي، كما ذلك الوشم الحبيب على ساقك الجميلة.