بقلم : نعمة الله رياض
كان الإحتفال بخروج المهندس / ميلاد منصور علي المعاش مرحا» في مظهره ،وكان التصفيق يسمع هادئا» ورزينا» بعد كل كلمة من زميل أو زميلة ، لكنه أحس أن الحضور يودعونه إلي مثواه الأخير.. إنتهي الإحتفال بتقديم الهدايا له .. كان من ضمنها الكتاب المقدس كاملا» ،بعهديه القديم والجديد ، مكتوبا» بحروف كبيرة ليسهل عليه قراءتها .. وقام بدوره بإهداء المصحف الشريف لكل زميل مسلم ، والكتاب المقدس لكل زميل مسيحي .عاد إلي منزله ، وفوجئ بعدما فتح الباب له بإحتفال عائلي آخر من أولاده وبعض أقاربه، كان أكثر حميميه بكثير..
كانت سعادته لا توصف بتخيله انه سيقضي مع عائلته وقتا أكبر ، لكن خاب ظنه..فالكل مشغول بأعماله وشئونه الخاصة ، ويقضي اليوم وحيدا» في مسكنه ، بعد وفاة زوجته منذ أكثر من عامين ..
مرت عدة أيام يحاول فيها التأقلم علي الوضع الجديد ، فهو ليس في عطلة أسبوعية أو أجازة سنوية ، لكنه في أجازة مفتوحة وعطلة دائمة .. تذكر الكتاب المقدس الذي أهداه له زملاؤه ، حروفه الكبيرة تعطيه ميزة عن النسخ الأخري التي بحوزته ، فتح الكتاب علي السفر الذي يحبه، سفر المزامير لداود النبي ، قرأ في المزمور (رقم 103) ((باركي يا نفسي الرب و لا تنسي كل حسناته ، الذي يغفر جميع ذنوبك ، الذي يشفي كل امراضك ، الذي يفدي من الحفرة حياتك ، الذي يكللك بالرحمة والرأفة ، الذي يشبع بالخير عمرك ،فيتجدد مثل االنسر شبابك))
يا الله .. ما أجمل هذا التسبحة ، مثل كل مزامير داود التي تطيب القلب وتملؤه بالسكينة ، كان داود حكيما وملكا» عظيما» ، بالرغم من جريمته الشنعاء ، عندما إشتهي الزوجة الحسناء لأوريا المحارب الشجاع في جيشه ، رغم كثرة زوجاته ومحظياته، فأرسل لقائد الجيش علي الجبهة أمرا» بإرسال أوريا إلي منطقة قتال بها أعداء أشداء والإنسحاب من حمايته فلقي مصرعه جزاء إخلاصه لملكه !! تاب داود عن خطيئته البشعة توبة صادقة،ورنم المزمور الشهير (رقم 51) يستعطف فيه الله ويطلب رحمته.
توقف المهندس ميلاد عند الآية الأخيرة .. كيف يتجدد مثل النسر شبابه ؟ وما حكاية النسر هذه ؟ بحث عن معلومات تشرح حياة النسور .. عرف انه توجد بعض أنواع منها ، عندما يبلغ عمر النسر 60 عاماً .. تعجز أظافره عن الأمساك بفريستة وهى مصدر غذائة ويصبح منقارة القوى الحاد معقوفاً شديد الأنحناء ،وتصبح اجنحتة ثقيله بسبب ثقل وزن ريشها وتلتصق بالصدر ويصبح الطيران فى غاية الصعوبة.. بالنسبة لهذه الظروف، يصبح النسر امام خيارين:
إما ان ينزوي في عشه ويستسلم للموت .. أو ان يقوم بعملية تغيير مؤلمة تستغرق 150 يوما»، فيحلق الى أعلى الجبال حيث عشة ويقوم بضرب منقارة فى صخرة بشدة حتى تنكسر مقدمته المعقوفة .. ينتظر حتى ينمو منقاره من جديد ثم يقوم بعد ذلك بكسر مخالبة ايضا، وبعد أن تنمو مخالبه ، يقوم بنتف ريشة القديم وبعد خمسة أشهر ، يطير النسر فى رحلته الجديدة ، وكأنة ولد من جديد ويعيش 40 سنة اخرى!!ً
تعجب المهندس ميلاد.. كيف عرف داود هذه المعلومة عن النسور ، وهو الذي عاش قبل ميلاد المسيح بأكثر من الف عام !! أي قبل ثلاثة الآف عام من الوقت الحالي ، لم يكن هناك محطات أبحاث لمراقبة حياة الطيور والحيوانات البرية لتراقب النسر بواسطة الأساور الألكترونية المثبتة علي ساقه لمدة 60 عاما ثم تتابعه 150 يوما أثناء عملية التجديد في عشه فوق الجبل ثم 40 سنة اخري حتي يموت !! وكيف يشاهد المرء نسرا» فيحكم ان هذا النسر ذاته كان عجوزا وقد تجدد شبابه؟! لا شك أن هذا تم بإرشاد من الله القدير لنبي من أنبيائه ..
في زيارة دورية للمهندس ميلاد لطبيبه ، سأله :
-كيف أحافظ علي صحتي في هذا السن وأعيش شيخوخة هادئة ؟
- هناك عشر وصايا، إن أتبعتها ستتمكن من العيش بسلام..
- وما هي ؟
- أولا» : أن تحب الحياة وتتحمس لها فتنشط هرموناتك تلقائيا»..
ثانيا» : حافظ علي مستوي عالي من الروحانية التي ينادي بها دينك الذي تؤمن به ، وتعود علي المسامحة . فهذا يرفع روحك المعنوية ، وينعكس ذلك بالتالي علي حالتك البدنية . ثالثا» : تناول طعاما» صحيا» قليل الدسم ، غني بالألياف وأكثر من الخضروات والفواكه والأطعمة المضادة للأكسدة والحبوب الكاملة. .
رابعا» : إشرب ماءا كثيرا» ..
خامسا» : إحرص علي إالنوم المبكر، ولعدد كافي من الساعات.
سادسا» : تعود علي ممارسة التمارين الرياضية ، فهي تنشط القلب وتفتح مسام الجلد.
سابعا» : تدرب علي الإسترخاء لتقليل التوتر ..
ثامنا» : نشط المخ بتعريضه لتحديات دائمة ، فهذا يمنع تطور مرض الزهايمر
تاسعا» : إعتني ببشرتك بتنظيفها وترطيبها وتغذيتها، وعدم تعريضها لفترة طويلة للشمس ، وهذا يؤخر ظهور التجاعيد والبقع علي الجلد .
عاشرا» : الإمتناع عن التدخين أو التعرض للتدخين السلبي ، وعدم إدمان الخمور والمخدرات .
ما زال يشغل بال المهندس ميلاد آية داود النبي عن تجدد الشباب ، سأل صديق له أثناء جلوسهما في حديقة النادي: - ماذا أعمل لأجدد شبابي ؟ أجابه الصديق:
- لن تقدر علي حياة طبيعية وانت تعيش وحيدا» في منزلك ، من حقك بعد ما توفت زوجتك رحمها الله ، أن تتزوج من إمرأة تأنس إليها وترعاك وتدبر شؤونك ، وقد كان من وسائل تجديد الشباب للعظماء والأغنياء من كبار السن في الماضي .. وفي الحاضر أيضا !!، أن يتزوج الرجل الطاعن في السن من فتاة صغيرة ترعاه وتعتني به !! أنظر ما ذكر في العهد القديم ، سفر الملوك الأول – إصحاح 4 :
((وَشَاخَ الْمَلِكُ دَأوُدُ وَطَعَنَ فِي االسِّنِّ، فَكَانُوا يُدَثِّرُونَهُ بِالأَغْطِيَةِ فَلاَ يَشْعُرُ بِالدِّفْءِ. فَقَالَ لَهُ عَبِيدُهُ: «لِيَلْتَمِسْ سَيِّدُنَا الْمَلِكُ فَتَاةً عذْرَاءَ تَخْدُمُكَ، وَتَعْتَنِي بِكَ وَتَضْطَجِعُ فِي حِضْنِكَ، فَتَبْعَثُ فِيكَ الدِّفْءَ». فَبَحَثُوا لَهُ عَنْ فَتَاةٍ جَمِيلَةٍ فِي أَرجَاءِ إِسْرَائِيلَ، فَعَثَرُوا عَلَى أَبِيشَجَ الشُّونَمِيَّةِ فَأَحْضَرُوهَا إِلَى الْمَلِكِ. وَكَانَتِ الْفَتَاةُ بَارِعَةَ الْجَمَالِ، فَصَارَتْ لَهُ حَاضِنَةً، تَقُومُ عَلَى خِدْمَتِهِ، وَلَكِنَّ الْمَلِكَ لَمْ يُعَاشِرْهَا.))
يبدو ان هذا العلاج قد جاء متأخرا» .. فقد بات الملك غير قادر علي مواصلة الحياة العادية، وأصابه الوهن ، وأصبح زاهدا»حتي مع أجمل فتيات إسرائيل!!
لكن ميلاد لم يتقبل هذه الفكرة إحتراما» لذكري زوجته أم أولاده التي شاركته في السراء والضراء
في زيارة تالية للطبيب سأله نفس السؤال : - أيها الطبيب الصالح ، ماذا أعمل لإجدد شبابي؟
- أنت تعرف الوصايا التي أخبرتك بها ..
- هذه كلها حفظتها وأعمل بها ، إنها تحافظ فقط علي الصحة، وتبطئ الشيخوخة ، ولكني أعاني من الملل ورتابة مرور الأيام ..
- يعوزك أيضا شئ .. بع كل مالك ، وإبدأ مشروعا» تستغل فيه خبرتك ..فالعمل الشاق ومواجهة تحدياته هو السر الأعظم لتجديد الشباب !!.أنظر إلي دونالد ترامب ، لقد بدأ بنشاط الفترة الأولي لرئاسة أقوي دولة في العالم وقد تعدي السبعين من العمر !!، وها هو يحير العالم بقراراته الجريئة التي تجعل الدول الصديقة والمعادية تعيد حساباتها أكثر من مرة!!
فلما سمع المهندس ميلاد ذلك مضي سعيدا»، فالفكرة التي أوصاه بها طبيبه الحكيم ، هي العلاج المؤكد للسأم من تعاقب الأيام بدون فائدة مثمرة ..
كان المهندس ميلاد يعمل قبل إحالته للمعاش مديرا عاما للإنتاج في شركه قطاع عام لتصنيع المقطورات التي يتم قطرها بواسطة سيارات النقل ، واكتسب خبرة كبيرة في تصنيع معظم أجزائها محليا» .. لذلك خطط لتنفيذ مشروع بالإتفاق مع شركه في اوروبا علي تصنيع وتجميع مقطوراتها في مصر.
إتفق مع إبن عمه أن يبيعا الأراضي الزراعية التي يملكاها في قريتهما ، كذلك العمارات التابعة لهما في القاهرة والساحل الشمالي ، وان يتشاركا في إقامة المشروع في مدينة صناعية بالقرب من القاهرة. كانت البداية صعبه للغايه، من الحصول علي الوكالة من الشركة الأوربية وشراء الأرض لأقامة المصنع وإستخراج التصاريح اللازمة .. إلي آخره من الجهود الشاقة التي كان لابد من إستكمالها ، ثم بدأ يطلب عمالة من المهندسين والفنيين والعمال ، كان لا يرفض أبدا من يطلب عملا من قريته أو من شركة القطاع العام التي كان يعمل بها ويجد له مكانا ملائم لخبرته ..إكتمل المشروع وبدأ الإنتاج يحقق أرباحا» مما شجعه علي التوسع والإقدام علي الخطوة التاليه ، وهي تكرار ما حدث بالحصول علي وكالة لتصنيع وتجميع سيارات النقل من ماركة معروفة عالميا لشركة أوربية في مصر ، ونجح المشروع الثاني ثم بدأ في مشروع ثالث لتصنيع الأتوبيسات .. وكانت شركته تحقق نجاحا» ملحوظا» لشهرة الماركة المصنعة في مصر ودقة تصنيع الأجزاء والتجميع..فكان الإنتاج منافسا قويا في المناقصات والبيع المباشر.
هكذا كانت شركة المهندس ميلاد منصور تحافظ علي سمعه عالية في السوق المصري وتتبوأ مكانة عالية كلاعب أساسي فيه.وبدلا من الأصول التي باعها بعدة ملايين، تكدست حساباته في البنوك وإنضم إسمه إلي نادي أصحاب الميليارات ..
وكان المهندس ميلاد يسدد بإنتظام الضرائب الواجبة عليه وعشور أرباحه للفقراء والمحتاجين ..وكان يشارك العاملين في شركتة أفراحهم وأحزانهم ويحضر بعضها بنفسه .. لذلك كان محبوبا من العاملين معه مسلمين كانوا أو مسيحين.
نهض ميلاد من فراشه مبكرا» كما تعود .. فتح النافذه ونظر إلي السماء، شكر الله علي نعمه، وانه وهب له يوما جديدا» يحياه .. كانت السماء صافية إلا من بعض السحب الصغيرة ، فرد ذراعيه علي إتساعهما ..إبتسم وهو راض..رفرف ذراعيه بمرح وبعض الشقاوة ، شعر انه قادر أن يطير محلقا» إلي السحاب .. وما فوق السحاب … !!