بقلم: د. حسين عبد البصير
مذكرات الفراعنة
يعتبر أدب السيرة الذاتية غير الملكية أو ما يسمى بـ«كتابة الحياة» من أقدم الأشكال والأنشطة الأدبية التي من خلالها عبر الأفراد عن هويتهم وتركوا بصماتهم على وجه الزمن لتجنب النسيان وتأمين استمراريتهم وذكراهم وبقائهم بعد الموت. وظهر هذا الجنس الأدبي مبكرًا في مصر القديمة والعراق القديم. ثم تعمق بشدة فيما بعد العصر الهوميرى والعصر الكلاسيكي في اليونان القديم، والعالمين الهلنستي واليوناني – الروماني، والحضارة العربية؛ حتى صار واحدًا من أكثر الأنواع الأدبية شعبية في الكتابة الحديثة والمعاصرة.
وشهد مجال كتابة الحياة غير الملكية محاولات عدة لتعريف الأشكال المختلفة التي استخدمها الأشخاص ليعبروا عن ذواتهم وحيوات الآخرين. ولعل أشهر التعريفات لذلك الشكل الأدبي هي «سيرة ذاتية» «أتوبيوجرافى»، و«سيرة» «بيوجرافى»، وتشكيل الذات، وتقديم الذات.
ويكتب السيرة الذاتية «الأتوبيوجرافى» عادة صاحبها بلسانه مستخدمًا ضمير المفرد المتكلم «أنا»، بينما يكتب السيرة غير الذاتية «البيوجرافى» شخص آخر غير صاحبها؛ لذا تكتب عادة بضمير الغائب.
وما يعنينا في هذا السياق هو أن السير المصرية لم تشكل سيرًا ذاتية بالمعنى المعروف لدينا عن السيرة الذاتية في ثقافتنا الحديثة والمعاصرة؛ وذلك لأن السير المصرية القديمة ربما ألفت في حياة أصحابها أو بعد وفاتهم. ومن المحتمل أن صاحب السيرة قد يكون شارك في تأليف أو اختيار أو إملاء النص الأدبي الخاص بسيرته؛ غير أن هذا الأمر غير مؤكد.
ويستخدم مصطلح «سيرة ذاتية» في مصر القديمة تجاوزًا وبشكل غير دقيق ودون أن يكون ذا صلة بمفهومنا لنفس الجنس الأدبي في العصر الحديث، ودون الإشارة إلى حقيقة وطبيعة ومفهوم ذلك النوع الأدبي في مصر القديمة ولدى المصري القديم. ويعد مصطلح «سيرة» «بيوجرافى» أكثر مناسبة للسيرة المصرية القديمة؛ نظرًا لكونه أكثر مرونة ويترك العلاقة مفتوحة وقابلة للتأويل بين النص وصاحبه ومؤلفه. وألف أغلب السير الذاتية المصرية القديمة بضمير المفرد المتكلم «أنا»؛ لذا أطلق عليها العلماء لقب «سيرة ذاتية» اعتقادًا منهم أن صاحب السيرة هو مؤلفها بسبب تحدثه إلى جمهور المتلقين بضمير المفرد المتكلم «أنا».
مولد الفن الجديد في الدولة القديمة
كُتبت السير الذاتية المصرية القديمة بداية من عصر الدولة القديمة إلى العصر اليوناني – الروماني على أسطح التماثيل واللوحات وجدران المقابر والمعابد والتوابيت والصخور. ويمكن القول إن جذور السير عميقة في التاريخ المصري القديم، وربما تعود بداياتها إلى لوحات الأسرة الأولى التي حمل أصحابها العديد من الألقاب مرورًا بلوحات حسي رع الخشبية في المتحف المصري بالقاهرة من الأسرة الثالثة وصولًا إلى سيرة متن في بداية الأسرة الرابعة، واهتمت تلك السيرة الأخيرة بأمور قانونية. غير أن أول سيرة تقدم لنا نوعًا من الفن القصصي هي سيرة دبحن من نهاية الأسرة الرابعة أو بداية الأسرة الخامسة. وفى الأسرة الخامسة، يخبرنا صاحب السيرة كثيرًا عن نفسه، ويمكن تقسيم هذا النوع من السير إلى نوعين: «سير مثالية» تتفق كلية مع مفهوم «ماعت» الأخلاقي، وتقدم صاحبها بجمل تقليدية طويلة تعنى بإظهاره كشخص مثالي، والنوع الثاني يسمى «سيرة ذات حدث» ويصف خبرات صاحب السيرة والحدث «الأحداث» التي مر بها في حياته خصوصًا الوظيفية، ومن خلالها يمكن استنتاج التاريخ. ومنذ نهاية الأسرة الخامسة، بدأت السير تقدم حياة أصحابها الوظيفية بتفاصيل عديدة مثل عهود الملوك الذين خدموهم ويطلق عليها «سير الوظيفة»، واستمرت في الأسرة السادسة. وأكدت سير الأسرة الخامسة على العلاقة المتفاعلة بين الملك والنبيل صاحب السيرة، على عكس سير الأسرة السادسة التي ركزت على أعمال أصحابها، وكانت خير مقدمة لسير عصر الانتقال الأول «على سبيل، سيرة المدعو قار من إدفو». وعبرت سير عصر الانتقال الأول عن التشرذم السياسي الذي مرت به مصر في تلك الفترة العصيبة من تاريخها القديم. ومع توحيد البلاد في عصر الدولة الوسطى، ظهرت روح جديدة في السير تستند إلى القيم الأخلاقية. وفى عصر الدولة الحديثة امتلأت السير بالأحداث التاريخية نظرًا لفتوحات مصر العسكرية في الشرق الأدنى القديم وأفريقيا. بينما لم تزهر السير كثيرًا في عصر العمارنة. على عكس عصر الرعامسة الذي شهد اهتمامًا كبيرًا بالعقيدة الجنائزية؛ ذلك التوجه الذي يستمر ويزدهر في سير عصر الانتقال الثالث والعصر المتأخر والعصر اليوناني – الروماني.
الموظفون يكتبون سيرهم
وكانت السير تكتب مكثفة في مضمونها، وتداخلت مع أجناس أدبية عديدة مثل فن القص وأدب الحكمة والأدب الجنائزي والأدعية الأخروية. وركزت السير على أهم معالم مسيرة المسئولين الوظيفية والمحطات البارزة في حياتهم. وكتب عدد كبير من موظفي الدولة المصرية سيرهم؛ فمن أصحاب السير كان هناك الكهنة ورجال الدين والفنانون والأطباء والوزراء والموظفون المدنيون والعسكريون بدرجاتهم الوظيفية والموظفون الإداريون كالمشرفين على القصر الملكي أو الحدود المصرية أو بلاد النوبة. وتنوعت درجات وأطياف الموظفين؛ فكان من بينهم موظفون من كبار رجال الدولة من الصف الأول وموظفون من درجات وطبقات وظيفية أدنى منهم قليلًا، غير أن جميعهم انتمى إلى صفوة المجتمع المصري القديم وطبقة النبلاء المتميزة، ولم تكتب السيرة لغير هذه الطبقة الإدارية الحاكمة بأغلب أطيافها البيروقراطية والتكنوقراطية، فلم نجد على سبيل المثال سيرًا تخص عامة الشعب، وكذلك لم تنتشر سير النساء من الطبقة العليا إلا في العصر المتأخر والعصر اليوناني – الروماني.
وأظهرت المسئول بصورة مثالية متوافقة مع أفكار ومعتقدات طبقة النبلاء المصريين. وكان الغرض من كتابة مثل هذه السير إضفاء مسحة من التقوى والورع على صاحبها في أعين الآلهة وأفراد عائلته ومجتمعه والأجيال التالية؛ وذلك حتى لا تندثر سيرة الموظف، وحتى يكون سجل إنجازاته في الوظيفة والحياة فخرًا له ولعائلته، وحتى يرث أفراد أسرته منصبه من بعده وحتى ينعموا بالامتيازات التي تمتع بها صاحب السيرة في الحياة الدنيا والتي يأمل أن تستمر بعد وفاته وأن ينعم بحياة أبدية سرمدية في العالم الآخر وألا تتوقف القرابين المادية من مأكل ومشرب عنه وعن مقبرته. وفى هذه السير، صور الفرد كانعكاس للسياق الثقافي والاجتماعي للمجتمع المصري القديم. وكنتيجة غير مباشرة، ألقت تلك السير بشكل عفوي بأضواء كاشفة على التاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لمصر القديمة.
ويعد هذا الجنس الأدبي طرازًا أدبيًا فريدًا ظهر في مصر القديمة مقدمًا الفرد المصري في سياق أخلاقي وقيمي ومجتمعي وثقافي وأخرى يختلف تمامًا عن مفهومنا الحالي لفن السيرة الذاتية الحديثة. فهذا الشكل الكتابي ينتمى للأدب المصري القديم في سياقه العريض، وعلى وجه الخصوص إلى العقائد المصرية القديمة التي تميل إلى إظهار المتوفى في صورة مثالية تكون شفيعة وتكفل له دخول جنات النعيم «حقول الإيارو» في العالم الآخر.
وكان تأليف تلك السير نمطيًا للغاية في معظم الأحوال. وتتكون السير عادة من ألقاب وصفات صاحب السيرة، واسمه وشجرة عائلته، والنداء إلى الأحياء، والنص القصصي، وتمنيات للحياة الآخرة. وكان من المكونات الأساسية للسيرة الكاملة النموذجية ما يعرف بـ «النداء إلى الأحياء» ضمن صيغة تقدمة القرابين للمتوفى. وإذا لم يحصل المتوفى على القرابين التي كان يتوقعها ويريدها، يمكنه من خلال هذه الصيغة أن يتوجه بندائه للأحياء المارين بمقبرته كي يتلوا من أجله صيغة أقرب للتالية: «يا أيها الذين «مازالوا» يعيشون على الأرض، الذين سوف يمرون بمقبرتي هذه، سواء أكنتم ذاهبين إلى الشمال أو إلى الجنوب، الذين يحبون الحياة ويكرهون الموت، الذين سوف يقولون «ألف رغيف من الخبز وإناء من الجعة من أجل صاحب هذه المقبرة»، سوف أحرسهم في الجبانة؛ لأنني ممتاز مزود بروح طيبة وخيرة».
ثم حدث تطور لاحقًا للنداء إلى الأحياء عرف بصيغة «لفظة الفم». وفى هذه الصيغة، يؤكد المتوفى للأحياء أنه لا يريد منهم غير ترديد نداء من أجله، وأن هذا الفعل عنده أفضل من الحصول على القرابين المادية. وكانت هذه الصيغة تكتب عادة على النحو التالي: «من فضلكم أعطوني مما في أيديكم. لكن «على سبيل المثال» إن لم يكن هناك شيء في أيديكم، قولوا فقط بألسنتكم «ألف من الخبز والجعة والثيران والطيور و«أوانى» الألباستر والكتان، «في الواقع» ألف من كل الأشياء النقية من أجل صاحب هذه المقبرة». إنه «بعد كل شيء» لفظ بالفم. وهذا لا يعد شيئًا يقلق المرء بصدده، وهو أكثر إفادة للشخص الذي يفعله أكثر من الذي يتسلمه». وفى هذا ما يوضح أن السير المنقوشة على جدران المقابر كرست وقدمت وأعلت من شأن أصحاب المقابر، وعبرت عنهم بأسلوب مكتوب عجزت المناظر والنقوش عن تقديمهم به. وكان من بين الجمل التقليدية في تلك السير ما يعبر عن أصل وعصامية أصحاب السير وقيمهم الأخلاقية ودورهم الاجتماعي نحو الطبقات المحتاجة في المجتمع؛ فعلى سبيل المثال يقول صاحب السيرة: «خرجت من بيتي، جئت من إقليمي». ويضيف: «أعطيت خبزًا للجائع والملابس للعاري». ونعرض فيما يلي بعضًا من نماذج السير من عصور مصرية متنوعة.