بقلم: د. خالد التوزاني
يتجدد الحديث في كل مناسبة وطنية، عن دلالات الوفاء للوطن ولدماء الشهداء في سبيل الحرية، ولجهود القادة من الملوك والسلاطين المغاربة في سبيل الوحدة الوطنية، وتعزيز الثوابت المغربية، ومن جملتها ذلك الالتحام الذي طبع العلاقات بين الشعب والملك، عبر تاريخ المغرب، فقد مثّل عقد البيعة الشرعية في المغرب، حدثاً سياسياً له أبعاد دينية واجتماعية واقتصادية، حرص المغاربة على توثيق عرى التواصل بين العرش والشعب، ولم يكن الملك مجرد رئيس دولة أو حاكم بالمعنى التقليدي، وإنما مثّل على الدوام رمزاً للأمة، وملاذاً للشعب في الملمات وفي الأزمات، ولذلك نرى لمبادرات الملك في المغرب ذلك الأثر الواسع في عموم النسيج المجتمعي في المغرب، باعتبار الملك رمزاً سامياً وثابتاً راسخاً من الثوابت الوطنية، متجلياً في مؤسسة إمارة المؤمنين، تطبيقاً لبنود البيعة الشرعية التي تنص على تدبير الملك لشؤون الدين والدنيا ورعاية المصالح العليا للوطن والشعب والأمة مع مراعاة مصالح الأقليات المقيمة في المغرب من رعايا الملك الأوفياء الذين يحظون بالتقدير والاحترام، فيبادلهم عموم المغاربة الاحترام نفسَه، اقتداءً بالملك، وهكذا يتابع المغاربة شؤون ملكهم محبةً وتعبيراً عن الوفاء للعرش ولعهد البيعة الكبرى حيث الالتحام التام بالملك والنظر إليه بعين التقدير والتعظيم امتثالا لأمر الله تعالى في طاعة أولي الأمر وفي الوفاء بالعهود، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا” (النساء: 59)، وفي الحديث الشريف “عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني”. ولا شك أن البيعة عهدٌ على الوفاء وتأكيدٌ على الطاعة والاتباع، قال تعالى: “وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا” (الإسراء: 34).
إن هذا الوفاء الذي يجمع المغاربة بملكهم، كان دائماً مصدر اعتزاز لعموم الشعب، وكان سدّاً منيعاً أمام كل المؤامرات التي حيكت للإطاحة بعرش الملك، ومنها الحدث الذي وقع في ليلة عيد الأضحى 20 غشت 1953 عندما أجبرت القوة الاستعمارية الفرنسية الملك محمد الخامس على مغادرة المغرب، وتم نفيه إلى جزيرة كورسيكا التابعة لدولة فرنسا، ثم قامت السلطات الفرنسية بنفيه إلى مدغشقر في يناير عام 1955م، ولم يكن الاستعمار على علم بالتعلق والاحترام الذي يكنه الشعب المغربي لسلطانهم. وهذا الحدث أدى إلى اندلاع ثورة عارمة في المغرب، خرج المغاربة بالآلاف تنديداً بنفي ملكهم، وتعبيراً عن التشبث بالملك الذي اختاره المغاربة وتربطهم به البيعة الشرعية، وكانت لهذه الثورة الكبرى التي عُرِفت باسم ثورة الملك والشعب آثار مباشرة في التعجيل بعودة الملك محمد الخامس للمغرب وفي التعجيل بطرد المحتل.
لقد واجهت هذه الثورة تحدياً كبيراً، هو إبعاد المستعمر للملك عن أرضه وشعبه، ومحاولة الضغط عليه ليتنازل عن العرش، وفشل المستعمر، أمام إصرار المغاربة على استرجاع ملكهم، والنضال ضد المحتل بالقلم وبالسيف، نضالاً سياسياً وعسكرياً، متجلياً في جيش التحرير الوطني، وفي نخبة المثقفين والعلماء المغاربة الذين كتبوا في الحرية والمقاومة وكانت لخطبهم ونصوصهم أبلغ الأثر في رفع منسوب الحماس الشعبي إلى درجة رؤية وجه الحبيب في البدر ليلة التمام، وكما قال الشاعر العربي (من شعر نازك الملائكة):
وثاروا وساروا إلى حيثُ يسكُنُ ذاكَ الغُلامْ … ودقّوا على البابِ في ثورةٍ ولَظًى واضطرامْ
وجُنّوا جُنُوناً ولم يَبْقَ فوق المَرَاقي حَجَرْ … ولا صخرةٌ لم يُعيدا الصُّرَاخَ: “نُريدُ القَمَرْ”
وقد التمس المغاربة كل سبيل موصل للحبيب، ومن الطرائف أن نجد في بعض الكتب القديمة، عبارة “جلبُ الحبيب بالنّظر إلى القمر”،
وكّللت الثورة بالنجاح، في تاريخ 16 نونبر 1955 عاد محمد الخامس إلى المغرب، وبعد عام من عودته، تم التوقيع على اتفاقية الاستقلال في 2 مارس عام 1956م ليحصل المغرب على الاستقلال بصفة رسمية يوم 18 نونبر 1956، ثم اتفاقية في أبريل مع إسبانيا، وفي أكتوبر انتهى الوضع الدولي لمدينة طنجة، ولتحقيق الوحدة الترابية استرجع المغرب إقليم طرفاية سنة 1958 وإقليم سيدي إفني في يونيو 1969 وجهة الساقية الحمراء يوم 6 نونبر 1975 وجهة وادي الذهب في 14 غشت 1979، لم تنته الثورة، إذ كانت هناك تحديات أخرى واجهها المغاربة بعد الاستقلال، وتمثلت في تحدي التنمية، تلك الثورة المستدامة، أو الجهاد الأكبر بتعبير الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه.
تمثل التنمية ثورة مستدامة ورهاناً كبيراً بعد تحدي الوحدة الترابية للمملكة المغربية، لتأتي بعد ذلك رهانات التحديث والعصرنة وخاصة بعد مرحلة جائحة كورونا حيث زادت الحاجة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في قطاعات الصناعة والفلاحة، والتي اقتضت العناية بالرأسمال البشري من خلال تطوير قطاعات التعليم والصحة والرياضة، تلك العناية التي ترجمتها المبادرات الملكية لجلالة الملك محمد السادس نصره الله عندما أعطى تعليماته السامية للحكومة المغربية في ضرورة إيلاء الجانب الاجتماعي الأهمية القصوى على جميع المستويات، وبالفعل انطلقت بعض الأوراش الاجتماعية الجديدة، والتي تؤكد تلك الثورة المستدامة التي طبعت العلاقة بين الملك والشعب في الالتحام بينهما مما جعل المغرب رائداً في الاستقرار وأرضاً للتعايش.
وهكذا تتجدد معاني ثورة الملك والشعب كل عام لتعكس روح الوطنية الراسخة وثبات العهد على الوفاء للوطن والملك في ظل العهد العلوي الزاهر، ويكفي الاطلاع على منجزات المغرب في العقدين الأخيرين لنقف على جوانب مشرقة في تاريخ المغرب المعاصر، وتبقى مع ذلك التحديات قائمة والرهانات الجديدة التي فرضتها ظروف العالم وتحولات العصر من أجل الحفاظ على ثورة مستدامة وعمق العلاقة التاريخية التي ربطت المغاربة بملكهم ووطنهم.