القاهرة/ ناصر سليمان
في نهاية صيف عام 1962، كان مسرح مدينة الزقازيق على موعد مع ليلة غنائية مختلفة. لم يكن الحضور يدرك أن تلك الأمسية ستسجل واحدة من أجمل لحظات الوفاء الفني في تاريخ الطرب المصري، عندما وقف العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ ليقدّم بنفسه المطرب الكبير محمد عبد المطلب أمام الجمهور قائلاً بصوته الهادئ المفعم بالاحترام:
“دلوقتي هتسمعوا أستاذنا وزميلنا المطرب الكبير الأستاذ محمد عبد المطلب.”
كانت الجملة بسيطة، لكنها خرجت من قلب فنان يعرف قيمة من سبقوه، ويؤمن أن المجد الفني لا يكتمل إلا بالاعتراف بالفضل. عبد الحليم، الذي كان حينها في قمة مجده وشهرته، لم يتردد في أن يصعد على المسرح ليعلن أمام جمهور حاشد أن الفنان الذي سيغني بعده هو “أستاذه”.
وقبل تلك اللحظة بسنوات، جمع بين الرجلين حوار طريف ظل يتردد بين محبي الطرب:
حليم: “هو في حد يقدر يمشي من السيدة لسيدنا الحسين؟”
عبد المطلب: “ما بلاش إنت.. يعني هو في حد بيمشي على الأشواك، ولا بيمسك الهواء بإيديه، ولا بيتنفس تحت المية؟ خليني ساكت أحسن…”
كان ذلك الحوار نموذجًا خفيف الظل على روح الدعابة والعمق الإنساني الذي ميز جيل الكبار. فعبد المطلب، بصوته الشعبي المليء بالحياة، وحليم، بصوته العذب الحالم، كانا يعبّران بطريقتهما المختلفة عن مدرسة فنية واحدة: مدرسة الإحساس والصدق.
لقد جمعت بينهما المحبة قبل الميكروفون، والاحترام قبل الألحان. لم يكن المشهد مجرد لحظة عابرة في حفل بالزقازيق، بل كان تجسيدًا لجسر من الوفاء بين جيلين — جيل الطرب الأصيل الذي مثّله عبد المطلب، وجيل التجديد والرومانسية الذي حمل لواءه عبد الحليم.
وربما لو أتيح للزمن أن يتحدث، لقال عن تلك الليلة إنها كانت ليلة العرفان بالفن وأهله…

ليلة علّمت الأجيال أن من يصعد لا ينسى من مهد له
الطريق.