بقلم: محمد منسي قنديل
أنا عاشق قديم للأنهار، في أي بلد أحل به يثيرني منظرها ، وأسعى للركوب فوق صفحتها مهما كانت النتائج، ربما لأنها تخفي قوتها خلف نوع من الرقة والانسيابية، ولأنها مفعمة بالحياة أكثر من الجبال والسهول، وللمصريين ولع خاص بالأنهار، لأن بلادهم هي إحدى هبات نهر النيل، الذي حولها من صحراء ضاربة إلى واحة، وأجمل الأنهار في نظري ما ظل على حالته البرية، لم يروض أو تشذب ضفافة، لأنها تكون مثيرة للرهبة، لذا فالامازون هو أكثر الأنهار مهابة، فمياهه الغزيرة داكنة الخضرة، تحيط بضفافه غابات شديدة الظلمة، البعوض فيه بحجم الذباب الكبير، ويرتفع الماء حتى يصل إلى حواف القارب الذي نبحر فيه كأنه يوشك أن يزحف بداخله، ويخيم على مساره سكون رهيب لا يقطعه غير صوت طائر مفزوع، أو صوت شلال هادر لا تدري أين يصب، رغم ذلك يبدو الأمازون نهرا مسالما رغم أن هناك مساحات منه لا ترى فيها الشواطئ التي تحده، على مسافات متفاوتة منه تبرز أكواخ من أغصان الشجر، يسكن فيها أطباء الغابة، يبيعون بثمن زهيد أعشابا ونباتات نادرة، تحافظ على الشباب وتعيد وهج القوة الجنسية، ولكن نهر زائير يبدو أشد جبروتا، لا أعرف ما هو أسمه الآن بعد أن تغير اسم الدولة لتصبح الكونغو، إنه نهر أفريقي بري، بني اللون، يكاد يكون مشبعا بالدم، موجاته سريعة ومتلاطمة، مازال على نفس حالته البدائية منذ أن سار فيه المستكشف (ستانلي) في القرن الماضي وهو يظن أنه قد وصل إلى منابع النيل، ولابد أنه سمع نفس أصوات الطبول التي مازلت تدوي في عمق الغابات، الأمر المرعب والغامض أننا لا نعرف إن كانت دقات الطبول للترحيب، أم إعلانا للحرب، فربما يختبئ خلف هذه الأشجار أقزام الغابة الذين ينفخون السهام السامة بواسطة مزامير من غابات البوص، أو آكلو اللحوم البشرية من بقايا الهوتو.
جمال الأنهار لا يكمن في رهبتها فقط ولكن في تلك الانسيابية الأخاذة التي لا تقدر حواجز الطبيعة على كبحها، فهي ترحل في أشد مناطق العالم وعورة، وتشق طرقا غريبة وخفية بين أخاديد الجبال، وقد وقفت في وسط آسيا على واحد من أنهار الجنة، هكذا تؤكد لنا مخطوطات شيوخنا الأفاضل ، (نهر آموداريا) الذي يشق سهوب التركمنستان مؤقتا، حتى إذا حانت القيامة اتخذ اسمه الأصلي (جيحون) واصبح واحدا من انهار الجنة المليئة بالعسل، نهر عذب ورائق مياهه فيها مذاق العسل بالفعل، على الكس منه نهر الفلبين المخيف بحق، وربما لهذا السبب اختاره المخرج الشهير فرانسيس كابولا حتى يصور فيه فيلم (القيامة الآن) المأخوذ عن رواية جوزيف كونراد، حيث يقوم ضابط أمريكي أثناء حرب فيتنام برحلة كابوسية داخل هذا النهر للقبض على قائد متمرد على عبثية هذه الحرب، فالنهر بلا ضفاف، ولكنه يحيط به أخدود عميق من ، تنمو عليه السرخسيات والهدبيات والأغصان الممتدة كالأفاعي، ولا يظهر في الأعلى إلا شق صغير من سماء بعيدة تهمي مطرا باردا، لكن الرحلة وسط هذا النهر هي تجربة آسرة، فيها لذة مقاربة الموت والوقوف على أعتابه، وسط سبع جنادل منحدرة من الصخور لا تتوقف بصعوبة إلا قبل أن تطل على حافة شلال آخر يقود إلى أخدود أكثر عمقا.
ولكن ليس هناك منظر تقع عليه عينا بشر أجمل من ضفاف النيل عند أسوان في جنوب مصر، فالنهر هناك لم يفقد طابعه البري الإفريقي، ولم يفقد اتساع مجراه، تحيط به جنادل من الصخور كأنها هامات اسطورية غرقى، منقوش عليها رموز فرعونية غامضة، أحاجي من زمن الموت والبعث، وتنتشر على صفحته ذات اللون الأصهب عشرات من المراكب ذات الأشرعة البيضاء، كأنها طيور بفرد جناح كما تقول أغنية (عبد الوهاب) (النيل نجاشي، حليوة أسمر).
كان المصريون يصيحون فرحا «يا عوف الله… يا عوف الله» كلما وفَّى النيل بميعاده وجاء وقت الفيضان، تكون مصر كعادتها منقسمة على نفسها، ففي الشمال فرح وانتشاء بقدوم المياه الجديدة بما تحمل من طمي وخصب، وفي الجنوب حزن وغم لأن النهر العاتي قد جرف في سبيله كل ما على ضفافه من بيوت وناس، وما بين الفرح والحزن يعلن النهر عن ولادته الجديدة، لا أحد يعلم على وجه الدقة ماذا تعني” عوف الله”، ربما كان تحريفا لاسم آلهة الماء كما يقول حسين فوزي في كتابه سندباد مصري، أو تعبيرا عن العافية التي تشعر بها الأرض في أعقاب كل فيضان، فالنيل نهر من أغرب أنهار الدنيا؛ في الصيف عندما تجف كل الأنهار يخالف النيل الناموس وتفيض مياهه على الضفاف، وتهب عليه رياح متجهة للجنوب ولكن أمواجه تعاكسها وتنساب نحو الشمال، ينحدر من تلال إفريقيا البعيدة، مهيبا كملك، قويا كشيطان، لا يأبه بالغابات الكثيفة، ولا بحرقة الصحراء الممتدة، يخترق جلاميد الصخور البالغة الصلادة، ويواجه ستة من الشلالات العنيدة، يملأ الغابات الصامتة بالصخب والهدير، يفور بالزبد، وينثر الرذاذ ويخلق أقواس قزح لا تتبدد، يجتاز أشجار السنط والأبنوس والصفصاف والجميز، ويمضي متفردا مثل فارس وحيد وسط فلوات الصحراء، لا توقفه الهضاب ولا كثبان الرمال ولا جبال من حجر صوان، يهبط بعنف من شلال “عنق الجمل”، وتفور مياهه عند شلال “المرجان”، ويتمهل ليلتقط أنفاسه قبل أن يقتحم شلالات “بيت العبد والمعفور والحارك”، وطوال هذه الرحلة الجافة لا يتلقى أي مدد إلا القليل من مياه نهر «عطبرة» السوداء، لا تجود عليه السماء بقطرات من المطر، ولا تذوب الثلوج من أجل إنعاشه، لا تحيط به إلا جلاميد حجرية داكنة، تشاركه أسرار الأبدية، ويحرص النهر بدوره على ألاّ يمحو ما عليها من نقوش وجعارين وخراطيش، يندفع وهو متقلب المزاج، حاملا طمي الخلق الأول، فيه شيء من رعونة النيل الأزرق، وبعض من حكمة النيل الأبيض، يفيض ويغيض ويتبدد أحيانا ليضيع في مسارب المستنقعات، ثم يجمع شريانه الرئيسي المتوحد، لا يهدأ ولا يأخذ سمة الوقار والعبوس إلا عندما يلمح رءوس النخيل في جنوب وادي مصر، أقدم نخيل عرفه بشر، نخيل يقف مزهوا على ضفاف النهر منذ آماد بعيدة، غرسه الفراعنة وشذبه الأقباط وأكل من بلحه جنود الرومان وعرف الفاتحون العرب أسرار فسائله فنشروها، تغيض مياه النهر كثيرا وتفقد قوتها، ولكن السواقي تلاحقه، والثيران المغطاة الأعين لا تكف عن الدوران، وخلف كل ثور يجلس طفل صغير يمسك عصا مربوطا فيها حبل، أشبه بمفتاح الحياة، وهو يصيح: «عا..عا» فترتفع القواديس إلى أعلى حاملة دفقات سحرية من مياه النهر، تلقي بها إلى القنوات التي تتفرع على وجه الأرض كشرايين الجسد، في وقت الفيضان تكون حمراء كالدم، وتكون الأرض سوداء كالمسك، والزرع أخضر كالياقوت، والقمح أصفر كأحجار اليشمك، تحتشد الغيطان المروية بالفول والذرة والشعير والعدس والقرع والبطيخ والفلفل والطماطم والباذنجان واللوبياء، ويصعد النخل كأذرع الآلهة القديمة، جذوره في رطوبة الطمي، بينما رأسه في وهج السماء، يواصل النهر مسيره وسط صمت الوادي حتى ترتفع التراتيل، وتظهر أعمدة المعابد والمسلات وأبراج الكنائس والمآذن، وتنفرط عقود الحمائم كي تملأ عيونها من مشهد المياه الزمردية قبل أن تؤوب إلى أعشاشها في كل مساء، ياعوف الله.. ياعوف الله.