بقلم: د. حسين عبد البصير
الباب الثالث: في رحاب الملوك
حمل الملك بيبي الثاني اسم نفر كا رع، وحكم في نهاية الأسرة السادسة في نهاية عصر الدولة القديمة. وحكم مصر بعد وفاة أخيه الملك مرنرع. وذكر عنه المؤرخ المصري القديم مانيتون السمنودي أنه وصل إلى العرش في سن صغيرة جدًا؛ إذ كان عمره حوالي ست سنوات، وأنه حكم حوالي 94 عامًا، وأن أمه كانت الوصية عليه، كما كان خاله الأمير الصعيدي وأيضًا الوزير «جعو» صاحب اليد العليا في تصريف أمور البلاد. وحكم بيبي الثاني أطول فترة حكم لعاهل في التاريخ حوالي 94 عامًا على الرغم من أن هذا الرقم متنازع عليه من قبل بعض علماء المصريات الذين يؤيدون عهد أقصر مدة.
كانت مصر في تلك الفترة في حاجة إلى ملك قوي، يكون له من النفوذ والسلطان ما يكبح بهما جماح حكام الأقاليم الذين ضعف ولاؤهم للحكومة المركزية في العاصمة منف، وأصبح ولاؤهم للحصول على مزيد من السلطة والمال دون اهتمام بأحوال الرعية. ولم يكن الملك الطفل بيبي الثاني قويًا، وبالتالي لم يكن قادرًا على تصريف أمور الحكم؛ لذا أخذ حكام الأقاليم يسلبونه سلطاته ما أمكنهم ذلك. وفي ظل هذه الظروف، عمت الفوضى أرجاء البلاد، وكان العمال والفلاحون ضحية ذلك العهد، وذقوا الأمرين، وما أن واتتهم الفرصة للتعبير عما تجيش به صدروهم حتى قاموا بثورة اجتماعية عارمة رافضين كل ما في ذلك المجتمع من ظلم وفساد. وبنهاية حكم هذا الملك، أوشك عصر الأسرة السادسة وعصر الدولة القديمة على الانتهاء، ذلك العصر الذي كان واحدًا من أزهى عصور مصر القديمة، وانتقلت البلاد إلى فترة زمنية جديدة، وهي عصر الانتقال الأول الذي تميز ببعض المظاهر المرتبطة بهذه الفترة وهي اللامركزية وازدياد سلطان حكام الأقاليم ثم قيام الثورة الاجتماعية. وتم التعبير عن ذلك العصر في عدد كبير من الأعمال الأدبية المعبرة بدقة عن تلك الفترة المضطرب في تاريخ مصر القديمة.
الملك رمسيس الحادي عشر
الملك رمسيس الحادي عشر كان آخر ملوك الأسرة العشرين وعصر الدولة الحديثة. واتسمت مصر في عهده بعدم الأمن وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي. وكان ذلك بسبب حالة مصر الداخلية المنهارة، وتهاون الملك في الدفاع عنها، وعجزه عن القيام بمهام الفرعون الحاكم لاستتباب الأمن والأمان في البلاد وبين العباد. وفي أواخر عهد رمسيس الحادي عشر، استغل أحد الكهنة الفرصة، ويسمى «حريحور»، كبير كهنة الإله آمون في طيبة في الجنوب، واستقل بحكم صعيد مصر خارجًا عن سيطرة الملك رمسيس الحادي عشر. وتم دفن الملك رمسيس الحادي عشر، وصعد على العرش أحد رجاله، ونسيبه المدعو «سمندس»، الذي تولى مراسيم دفن الفرعون. وأسّس سمندس الأسرة الحادية والعشرين وحكم مصر السفلي فقط، وكان يحكم من العاصمة الشمالية، تانيس فقط. ولم يستطع سمندس السيطرة على وسط مصر أو صعيدها، التي تولى فيها الحكم آنذاك كبير كهنة آمون بطيبة في الجنوب.
الملك سمندس
الملك سمندس أو «حدج خبر رع ستب إن رع» هو مؤسس الأسرة الحادية والعشرين. وقد اعتلى العرش بعد دفن الملك رمسيس الحادي عشر. ولا نعرف عن أصله بشكل واضح، لكن يُعتقد أنه كان وزيرًا للشمال وقائدًا لجيوش الدلتا، وربما كانت ترجع أصول هذا الملك إلى مدينة منديس في شرق الدلتا؛ إذ حمل بين ألقابه لقب «مري آمون نسو با نب جدت»، ذلك اللقب الذي يربط برب مدينة منديس «با نب جدت». وكان على صلة بالبيت الحاكم القديم في الأسرة العشرين؛ إذ تزوج من ابنة الملك رمسيس الحادي عشر «تانت آمون»، والتي كان لها الحق في الجلوس على عرش البلاد بعد والدها، فتزوجها سمندس وأصبح الحاكم الشرعي للبلاد.
وفي وضع لا يتكرر كثيرًا، تعاصر الملك سمندس في فترة حكمه مع فترة كبير كهنة آمون المدعو حريحور في طيبة في الجنوب، وتعد هذه من المرات القليلة التي حكم مصر فيها الكهنة، أو ما يعرف بـ»الحكم الثيوقراطي»، أي «حكم رجال الدين»، ولم يكن ذلك النوع من الحكم معروفًا في مصر القديمة؛ ويرجع ذلك إلى ضعف الملك سمندس الذي لم يستطع السيطرة على جنوب البلاد وظل الجنوب في قبضة كهنة الإله آمون، وكان في البلاد حاكمان: حاكم في الشمال في تانيس، الملك سمندس، وحاكم في الجنوب في طيبة كبير، كهنة الإله آمون حريحور، ومن بعده خلفاؤه. ويشكل هذا وضعًا عجيبًا للحكم. ويعتبر بداية عصر الانتقال الثالث في تاريخ مصر القديمة. ويبدو أن الملك سمندس وكبير الكهنة حريحور قد توصلا إلى اتفاق ما فيما بينهما على تقاسم السلطة والألقاب بصورة ودية. وكان مضمون الاتفاق أن يعترف كهنة الجنوب بشرعية الملوك الشماليين في مقابل أن يعترف هؤلاء الملوك بتثبيت حق أبناء «حريحور» وخلفائه في قيادة الجيش ومنصب الكاهن الأكبر لآمون. وقد تعزز هذا الاتفاق بين الأسرتين الطيبية والتانيسية حين تزوج باي نجم الأول، حفيد كبير الكهنة حريحور، من ابنة الملك سمندس. وكان لهذا الوضع سلبياته الكبيرة على مصر في الداخل وصورتها في الخارج. ولقد ساهم هذا الوضع في زعزعة الثقة بين المصريين؛ إذ لم يكن لهم ملك واحد فقط كما كان نظام الحكم المعتاد من قبل. ولم يكن هناك من يتحمل المسئولية. وكان كل منهما يلقى بالمسئولية على الطرف الآخر. وتسبب ذلك في انهيار علاقة مصر في العالم الخارجي، كما يظهر ذلك بوضوح في قصة «ون آمون» الأدبية الشهيرة.
الملك تنوت أماني
الملك تنوت أماني بالأشورية، أو الملك تنوت آمون بالمصرية، وغيرهما، كلها أسماء للملك النوبي الكوشي الجنوبي تنوت أماني، ملك كوش، وفرعون مصر، وآخر ملك في الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية. وهو ابن الملك شباكا، وابن أخت الملك طاهرقا، وخليفته على العرش. وبعد رحيل الأشوريين عن مصر وتنصيبهم للفرعون التابع لهم نخاو الأول، جد ملوك الأسرة السادسة والعشرين الصاوية في الدلتا المصرية، سير الملك تنوت أماني جيوشه غازيًا لمصر كلها حتى العاصمة الأبدية منف رغبة في الانتقام من الأشوريين. وكرد فعل لذلك، عادت جيوش الأشوريين إلى مصر مرة أخرى، ونجحت في طرد الكوشيين إلى الجنوب.
وانتهى بذلك حكم دولة الضعيفة على مصر القوية. ومنذ ذلك التاريخ وحتى وفاته، حكم الملك تنوت أماني مملكة كوش فقط، من مدينة كرمة في الجنوب، ودُفن في المقابر الملكية في مدينة الكرو التاريخية، وتحديدًا في الهرم رقم 16، ولم نعد نسمع عن دور له أو لأي أحد من أسرته في حكم مصر، واختفوا في الجنوب كما جاءوا منه، وكأنهم كانوا سرابًا أو ظلاً مرّ ذات نهار مشمس على جدار ما.
التكملة في العدد القادم