بقلم: علي عبيد الهاملي
كاتب وإعلامي إماراتي
في الذكرى الرابعة والعشرين لأحداث 11 سبتمبر 2001م، أحاول أن أستعيد ما جرى في ذلك اليوم ونحن نوشك أن نطوي ربع قرن على «غزوة مانهاتن» كما أطلق عليها الذين خططوا لها ونفذوها، وفقا لاعترافهم.
لا أقصد باستعادة ما جرى تفاصيل أحداث ذلك اليوم التي أصبح الجميع يعرفها، والتي تبقى مثار جدل حول ما إذا كانت مؤامرة، أيًّا كان من وقف خلفها، أم أنها ثمرة تخطيط ناجح لتنظيم «القاعدة» وقتها، وفقا للتسجيلات التي تم بثها لأمير التنظيم أسامة بن لادن بعد العملية.
ما أقصده باستعادة ما جرى هو الكيفية التي تلقيت بها الخبر الأول عن تلك الهجمات، والمكان الذي تلقيت فيه الخبر، وردة الفعل التي أعقبت تلقي ذلك الخبر المزلزل، ونحن نبدأ ألفية جديدة، لم نكن نعرف ما إذا كانت ستكون مختلفة عما قبلها، وكيف ستكون مختلفة، وماذا تحمل لنا، وهل ستكون الأقدار رحيمة بنا، أم ستكون أشد قسوةً علينا.
كنت قد وصلت إلى جنيف يوم التاسع من سبتمبر 2001م، وقد بدأت تلك المدينة الواقعة على مقربة من الحدود الفرنسية، تودع الذين اعتادوا زيارتها لحضور كرنفالها الصيفي وعرض الألعاب النارية، اللذين يقامان عادة في منتصف شهر أغسطس، حيث ينفق كانتون جنيف ميزانية ضخمة لجذب السياح من كل الأنحاء. وقد حضرت الكرنفال وعرض الألعاب النارية ذات عامٍ، وأشهد أنني لم أر في حياتي عرضًا يضاهيه حجمًا وجمالا وروعةً.
وصلت في هذا التوقيت لأجد جنيف قد ودعت زائريها الصيفيين، يخيم الهدوء عليها مع انتهاء فصل الصيف ودخول الخريف. سكنت في أحد الفنادق القريبة من بحيرة «ليمان» في الجزء الحديث من المدينة. خلف الفندق كانت تقع حديقة صغيرة. لاحظت أثناء جلوسنا في الحديقة أن هناك مجموعات كبيرة من الأفراد، واضح من بشرتهم وملامح وجوههم، ومن اللغة التي كانوا يتحدثون بها، أنهم ينتمون لبلد عربي في القرن الإفريقي مزقته الحروب الأهلية والتدخلات الخارجية بعد انهيار نظامه المركزي. توقعت أنهم يبحثون عن لجوء إنساني، أو هم حاصلون عليه بالفعل. تساءلت: لماذا يلجأ بعض العرب إلى الغرب هربًا من بلدانهم المشتعلة بالحروب؟ في مركز تجاري قريب، كان هناك بائع ساندويتشات عربي تعرفت عليه في يوم وصولنا. كانت ساندويتشات الفول والشاورما التي يبيعها لذيذة بحق.
بعد يومين من وصولنا، خرجنا في الصباح لتناول طعام الإفطار في كافيتريا قريب من الفندق. عندما عدنا إلى الفندق قبل الظهر بقليل فتحت جهاز التلفزيون الذي في الغرفة. كان الجهاز مبرمجًا على قنوات يبث أغلبها باللغتين الفرنسية والألمانية، اللتين يتحدث بهما أكثر من 90% من الشعب السويسري. لفت نظري مشهد متكرر في كل القنوات التي كنت أتنقل بينها. كان لبرج التجارة العالمي في نيويورك وهو يحترق. اعتقدت في البداية أنه مشهد تمثيلي من مشاهد هوليوود الخادعة، لكن مروره بشكل متكرر في كل القنوات جعلني أشك في ذلك. بحثت عن قناة ناطقة باللغة الإنجليزية فوجدت أخيرا «سي. إن. إن» الأمريكية و «بي. بي. سي» البريطانية. هالني ما سمعت من تعليقات وتحليلات كانت تبث على الهواء مباشرة. بعد ساعات قليلة بدأ اسم المسلمين والعرب يتردد على ألسنة المذيعين، والمراسلين، والمعلقين، والمحللين… والبقية تعرفونها.
خرجت من الفندق مصدومًا مما رأيت وسمعت. مشيت على غير هدىً متوجسًا أن يعرف أحد قوميتي أو ديني. وصلت محل بائع الساندويتشات العربي الذي استقبلني بابتسامة عريضة. سألني إذا كنت قد سمعت عما حدث في أمريكا اليوم. أجبته: سمعت ورأيت. قال رأيه الذي لم أسأله عنه. سألني عن رأيي. تجاهلت سؤاله. أخذت طعامي، ثم قفلت عائدًا إلى الفندق. لم أخرج من الفندق مرة أخرى في ذلك اليوم.
بعد يومين كنت أتجول في المنطقة التي خلف الفندق فقادتني قدماي إلى مكتبة صغيرة كانت تعرض في واجهتها كتبًا عربية. دخلت المكتبة بشكل تلقائي فرحب بي صاحبها. كان من إحدى دول المغرب العربي. سألته عن كتاب ينصحني بقراءته، فقدم لي كتاب صموئيل هنتنغتون «صدام الحضارات».
اليوم، في ذكرى هجمات 11 سبتمبر أتساءل: إلى أين أخذ العالم أولئك الذين خططوا لتلك الهجمات ونفذوها.. وكيف تركوا العالم بعدها؟