بقلم: محمد منسي قنديل
اشياء كثيرة تغير مجرى حياتنا، ثم نكتشف أنها زائفة، لا أنسى صدمتي الاول عندما كنت طفلا صغيرا ، واكتشفت أن “عديتي” التي لم تكن تتجاوز القروش الخمس زائفة، كنت مثل أي طفل أنتظر هذا المبلغ الصغير بفارغ الصبر، وكان أبي رحمه الله قد حرص أن يعطيني إياه لامعا وبراقا، لم يغشني أبي بطبيعة الحال، ولكنه هو أيضا كان ضحية للغش، فلم يكتف الرجل صاحب الحلوى بلوي عملتي تحت اسنانه، ولكن الزيف خيم على منزلنا الصغير بأكمله وحرمه من بهجة العيد، أخذ أبي اجره زائفا، بعد ذلك اكتشفت أن الزيف منتشر كالهواء، دولة ومؤسسات وأفراد يتنفسون هواء الزيف نفسه، خطط قومية للتنمية زائفة، مشاريع وهمية، افراد يمتلكون أعلى الشهادات وكلها زائفة، اجهزة رقابية زائفة، مؤلفون زائفون، لذا لم افاجأ كثيرا حين عرفت أن قلادة النيل، ارفع وسام تقدمه مصر هي أيضا زائفة..
مصريون قلائل ظفروا بهذه القلادة، على رأسهم الدكتور مجدي يعقوب، وقد أسعدني حقًا ذلك التكريم الذي ناله ذلك الجراح العالمي في وطنه الأم، فهذا الرجل القديس وهب حياته في صمت وتبتل من أجل إنقاذ أرواح آلاف الأطفال، ومثل كل الرهبان اختار أن يبني مستشفاه في أقصى صعيد مصر، بعيدًا عن صخب الإعلام وأضواء الشهرة، وسط الفقراء الذين يحتاجون هبته الإنسانية وهو يعالجهم بالمجان، وكم كانت جميلة قلادة النيل العظمى وهي تزين عنقه النبيل، وقد اكتسبت جزءا من جلال شخصيته، وهذه من المرات القلائل التي تذهب فيها هذه القلادة لمن يستحقها، فكثيرًا ما تذهب لرؤساء دول قفزوا على السلطة، واستعذبوا طعم الاستبداد.
لم أحضر هذا الاحتفال، ولكن قدر لي أن أحضر احتفالاً مماثلاً داخل القصر الرئاسي عندما تم تقليد أديبنا العظيم نجيب محفوظ هذه القلادة نفسها ، كان يومًا رائعًا، خاصة تلك اللحظة التي أحنى فيها نجيب محفوظ رأسه في تواضع وخاطبنا قائلا: «زملائي الأدباء النجباء»، تصورت لحظتها أن «نجباء» تعني جمع «نجيب» وأننا ذات يوم سنكون مثله، لم يتحقق هذا على أي حال، كان الأديب العراقي مجيد الربيعي يجلس بجانبي مستثارا للغاية، واكتشفت أن السبب ليس وجوده في هذا الحفل ، بل لأن في الصف الذي خلفنا يجلس جمع من الفنانين أمثال فريد شوقي ومحمود ياسين وسميحة أيوب، ولم يصدق مجيد الربيعي أنه يراهم في الحقيقة وليس على الشاشة، وبعد انتهاء الكلمات الرسمية أخذنا نتناول أطعمة بسيطة ونشرب الشاي، كانت المخبوزات جافة غير لذيذة كأنها صنعت من أيام، وانتهز الشاعر محمود درويش – رحمه الله – الفرصة وسعى لمصافحة فريد شوقي بحرارة وقدم له نفسه، لكنه رد عليه في برود من لا يعرفه، وعاد درويش محبطا فقال له سعيد الكفراوي: هل كنت تعتقد أن فريد شوقي يقرأ الشعر، إنه بالكاد يقرأ مجلة الكواكب والموعد والشبكة، وقال درويش: مهما كان فهو الملك.. ملك الترسو حقا.. ولكنه ملك.. واستطاع الأديب جار النبي الحلو التسلل حتى وقف مباشرة أمام الرئيس وقال: افرج عن رواية «أولاد حارتنا» ياريس، إنها ممنوعة منذ صدورها، كانت الرواية مازالت ممنوعة من التداول في مصر بتوصية من الازهر، ورغم أنها طبعت عدة طبعات في بيروت وتسللت نسخها للقاهرة إلا أن أمر المنع ظل ساريا ، ورد عليه الرئيس ساخرا: يعني أنت قريتها ياخي؟ ورد جار بثبات: طبعا.. وهي رواية عظيمة، قال الرئيس ضاحكًا، مادمت قرأتها وهي ممنوعة، فلماذا نفرج عنها إذن؟ واقترب واحد من أحزاب المعارضة من الرئيس، من حزب الأحرار على ما أذكر، وهو يقول: اسمح للحزب بامتلاك مطبعة ياريس، حتى ولو كانت في حجم صندوق صغير، ورد الرئيس: طبعًا.. عشان تطبعوا عليها منشورات ضدنا، وأخذ الرجل الكلام على محمل الجد فشحب وجهه وكاد يغمى عليه، كان الجميع في حالة من الصخب والانتشاء إلا نجيب محفوظ، كان يجلس في أحد الأركان صامتًا ساهمًا كأبي الهول، لعله كان يفكر أن هذا ليس مكانه، وأن الأفضل له أن يجلس في أحد المقاهي الشعبية وسط الحرافيش من أصدقائه، بدا واضحًا أن القلادة الضخمة تثقل عنقه النحيل، وتمنى كل واحد منا أن يتقدم وان يرفعها عنه حتى يكون على راحته، ولكن من كان يجرؤ على ذلك؟.
بعد هذا الضجيج غير العادي عاد نجيب محفوظ إلى بيته الهادئ في حي “العجوزة” المطل على النيل، هذا البيت الذي لم يتغير ولم يدخله إلا قلة قليلة من الاصدقاء، كانت حياته الشخصية منعزلة تماما عن أي ضجيج يمكن أن تثيره الشهرة، وكان طبيعيا أن تكتشف زوجته” عطية الله” ومنذ النظرة الاولى ان القلادة مزيفة، وإنها لا تمت للذهب الخالص بأي صلة، كان محفوظ واعيا وحصيفا وخبير بكل صنوف الحياة، ولكنه وضع كل هذه الخبرات على الورق، لم يطبقها على الواقع، ولم يستطع أن يصدق أن رئيس الجمهورية، في ذلك الحفل المهيب داخل قصره يمكن أن يمنحه شيئا زائفا، لذلك كذب زوجته، فما كان منها إلا أن حملت القلادة إلى محلات “الصاغة” وفحصها أكثر من واحد منهم وأكدوا جميعا أنها زائفة، وكل ما فعله محفوظ أنه طلب من زوجته ومن بنتيه التزام الصمت.
سنوات كثيرة مرت، ومات نجيب محفوظ دون أن يكشف سره، لم ينطق بكلمة واحدة عن هذه القلادة، ولحقت به زوجته وابنته على فترات متفاوتة، لم تبق إلا ابنة وحيدة هي “أم كلثوم” تحمل كل الاسرار، هي التي خرجت في مقابلة تلفزيونية لتعلن أن هذه القلادة زائفة وأنها لا تمت للذهب بصلة، وأن المجوهرات المرصعة بها هي ايضا زائفة، للقلادة مواصفات منصوص عليها، وتقوم بتنفيذها دار سك العملة ضمان لدقتها وقيمتها، ولكنها غير مطبقة في هذه القلادة وفور ذلك الاعلان اصدرت هذه الدار بيانا عصبيا تؤكد فيه أن القلادة صحيحة، ولكن ضمير وزير الثقافة السابق فاروق حسني الذي تحمل الكثير لم يستطع التحمل هذه المرة فاعترف أن القلادة التي تمنح للمصرين دائما ما تكون زائفة، أما التي تمنح للأجانب فهي الاصلية، ويعني هذا أن القلادة التي منحت لمجدي يعقوب ومن بعده محمد البرادعي كانت زائفة، لا حدود للزيف في مصر المسكينة.