بقلم: شريف رفعت
أقود سيارتي عائدا من عملي، أفكاري تعصف بي، كان لي لقاء غير ودي مع مديري في العمل قبل انصرافي، مرّت ستة أشهر على إلتحاقي بهذه الوظيفة، اجتمع بي الرجل لتقييم أدائي بعد انقضاء هذه الفترة، كان عنده العديد من الملاحظات السلبية، طلب مني أن أحسن أدائي و إلا ستكون أيامي في الشركة معدودة، لا شك أن الرجل اللئيم كان يستمتع بتوبيخي، أعطاه هذا الموقف شعور بالأهمية و التفوق و الرئاسة، لم ينتقد مجهودي فمجهودي في العمل واضح للجميع لكنه رَكـَزَ على أسلوب العمل، طريقة التفكير ـ كما يدعوها ـ و اختلاطي مع زملائي، حيث وصفني بأني انعزالي مما قد يؤثر على روح الفريق التي يجب أن تسود الجميع في مكان العمل، لـَمّـَح الخسيس إلى خلفيتي العرقية و إلى أني يجب أن أفكر مثل أفراد المجتمع هنا كي أنجح في عملي، لم أناقشه كثيرا رغم عدم اقتناعي بأغلب ما قال. هذه هي وظيفتي الأولى في بلدي الجديد كندا، حصلت عليها بعد حوالي سنة من البحث الدءوب، لحاجتي الماسة للوظيفة لم أحاور مديري و لم أفند ملاحظاته، لكن بابتسامة حاولت أن أجعلها مؤدبة و ليست خانعة وعدته أني سأحسن من أدائي و أني سأكون عند حسن ظنه.
سألت نفسي “هل هذا قدري؟” ما حدث اليوم هو امتداد لما حدث معي في مصر قبل هجرتي، هناك كان أصحاب الشركة التي عملت بها مصدر مضايقات دائمة لي، كان آخر ما يفكرون فيه في سعيهم الدائم لمضاعفة أرباحهم هو معاملة إنسانية لمستخدميهم، حولوا ساعات عملي إلى مصدر دائم للمتاعب و الاضطهاد، و رغم أن الوظيفة كانت غير مجزية إلا أنني تحملتها بمتاعبها لأنها كانت الوحيدة المتاحة.
عندما اشتركت في أحد المظاهرات السلمية أثناء الثورة و ما تلاها من أحداث قُبِضَ علي، أودعت أحد السجون لعدة أشهر دون محاكمة، تجربة السجن بفظاعتها و التي كشفت لي عن عدم آدمية العديد من مواطني بلدي كانت الحافز الأكبر لي على الهجرة، لا أدري هل لقاء اليوم مع مديري كان امتداد لصعوبة حياتي، للظروف الصعبة التي قـُدِرَ لي أن أعايشها، تساءلت هل هذا فعلا هو قدري الذي لا أستطيع الفكاك منه حتى هنا في الطرف الآخر من العالم. ترى كم شخص مثلي في هذا العالم لا يعيش حياته لكنه يعانيها، أم أني أنا من يـَجـُر هذه المواقف على نفسه.
أفقت من أفكاري البائسة على ضجيج و أضواء سيارة شرطة تتبعني، أوقفت سيارتي على جانب الطريق، جاءتني شُرْطِيـَة و طلبت مني أوراق تحقيق شخصيتي، سألتها إذا كان هناك شيء خطأ، أجابتني بمنتهى العنجهية و بطريقة لا شك أنهم درسوها لها في كلية الشرطة أن سيارتي لم تقف عند تقاطع الشارع الفائت كما توجب علامة الوقوف، لم اعرف كيف أرد، كنت مشغولا بأفكاري و لم أدري إذا كنت قد توقفت ام لا، أعطتني الشُرْطِيـَة مخالفة قيمتها 150 دولارا ثم انصرفت.
عدت لمنزلي، قررت أن أنسى ما حدث خلال اليوم، استقبلتني ابنتي مهللة، حضنتها رافعا إياها عن الأرض، جلست اتناول الطعام معها و مع زوجتي، لم اذكر لزوجتي أي شيء عن متاعب اليوم، بعد الطعام خرجت مع ابنتي إلى حديقة المنزل الخلفية، المنزل استأجرناه بعد حصولي على عملي، إيجاره أغلى بعض الشيء عن الشقة التي كنا نقطن بها سابقا لكنه مستقل و به حديقة تلعب فيها ابنتي ذات الأربع سنوات، الحديقة بها حوض للسمك حجمه حوالي قدمين في أربعة أقدام، ملأته بالماء أمس و اشتريت أربعة سمكات حمراء و ذهبية و أطلقتهن به، قالت لي زوجتي أن ابنتي أمضت معظم اليوم تتأمل السمك و تلقي له بالطعام. أخذنا نتناول مشروبا باردا و ابنتي تحكي لي عن السمكات الأربع، ماذا فعلن في أول أيامهن بحوضنا، بينما أنا منسجم مع الصغيرة نناقش إطلاق أسماء على السمكات سمعت صراخ طائر و رأيت نورس ينقض من السماء على الحوض ثم يرتفع عاليا و في منقاره أحد الأسماك الذهبية. لم تكن ابنتي هي الوحيدة التي صُدِمَت، أنا أيضا أُخِذْت، انتابتني مشاعر سلبية غلابة، تذكرت متاعب اليوم التي حاولت تناسيها، في الواقع تذكرت كل متاعب حياتي، كما لو كان هذا النورس اللعين من ضمن العديدين المتآمرين على سعادتي، مع الشرطية و رئيسي في العمل و أصحاب الشركة التي عملت بها في مصر و الأمن المصري الذي احتجزني في زنزانة لعدة أشهر، انتابني قنوط شامل، شعرت أنه مُحَرَم علي أن أختلس لحظات من السعادة مع ابنتي في حديقة منزلنا، انطلقت ابنتي للداخل كي تحكي لأمها ما حدث و هي في منتهى الانفعال، زوجتي قالت “بالتأكيد سيعود النورس لاصطياد باقي السمك، ماذا تنوي أن تفعل؟” وجَهْت نفس السؤال لنفسي “ماذا سأفعل؟ ماذا سأفعل بخصوص حياتي كلها؟”، قلت لزوجتي و أنا أدعي الهدوء “دعيني أفكر”
كانت فكرتي أولا أن أضع في الحوض بعض النباتات المائية كي يحتمي السمك بها، لكني بدلا من ذلك احضرت أربعة طوبات وضعتها عند أركان الحوض الأربعة، أحضرت ايضا لوحا زجاجيا يماثل في حجمه حجم الحوض تقريبا و وضعته فوق الأربع طوبات، بذلك وفرت حماية كاملة للسمك و شِرْك للطيور الشريرة، ابنتي كانت تتابعني باهتمام و هي متحمسة، جلست أنا و هي نتسامر مرة أخرى و نناقش إطلاق أسماء على السمكات الثلاث المتبقية، بينما انحدرت الشمس نحو المغيب لاحظت لأول مرة كثرة طيور النورس التي تحوم حول المكان، و أنا جالس مع ابنتي شعرت بالتحفز و الفخر في نفس الوقت، فها أنا أتعامل مع أحد مشاكل حياتي ـ رغم صغرها النسبي ـ بطريقة إيجابية، هي البداية، خطوة أولى ستقود إلى خطوات للتعامل مع كل الصعوبات التي واجهتها و سأواجهها في حياتي.
السمك يسبح بهدوء في الماء، أشعة الشمس الغاربة تنعكس على لوح الزجاج، الطيور تحوم فوق حديقة منزلي الخلفية و أنا أداعب ابنتي و عينيي على الموقف، فجأة علا صراخ أحد النوارس و انقض من السماء على حوض السمك، المأفون لقى جزائه، سمعت صوت ارتطام منقاره بلوح الزجاج، قمت متوجها للحوض تتبعني الصغيرة، الطائر ملقى على لوح الزجاج مذهولا كما لو كان مغشى عليه، لا يستطيع الهروب أو الطيران، أمسكته و نظرت لمنقاره، يبدو سليما، أعتقد أنه بخير لكن تأثير الصدمة عليه ما زال واضحا، قلت لابنتي “بالتأكيد تعلم هذا الأحمق البائس و كل الطيور التي تحيط بنا درسا قيما، لن يعتدوا بعد اليوم على أسماكنا فنحن لن نستكين أبدا لمن يسيء إلينا، سأطلقه الآن، عَلّ هذه النوارس تقدر عفونا عند المقدرة”.
أطلقت النورس و الذي بدأ الطيران بصعوبة أولا ثم انطلق في السماء مبتعدا و منضما لباقي الطيور التي تحوم حول الحديقة.
شعرت بشيء يسقط على رأسي، مددت يدي أتحسسه، كان شيئا مقززا رخوا لزجا، لقد فعلها أحد الملاعين فوق رأسي.