الرسالة – بهيج وردة:
«من الثلاث اللاتي تنافسن، القرن الماضي، على عرض المغنى العربيّ، تتقدم اليوم في معرض الذكر والتعداد، أم كلثوم وأسمهان وتليهما منيرة املهدية، ولكن ما يصح اليوم لم يصح آنذاك. ففي ذلك العهد الذي لم يخل، شأن زماننا، من ثورات تكنولوجية وسياسية كان قصب السبق، في مصر، كما في بلاد الشام، مكتوباً لفتحية أحمد».
يصعب بعد قراءة مثل هذا التقديم على الغلاف الخلفي للكتاب ألا تتشوق لمعرفة من هذه المغنية، إذ لم يكن اسم فتحية أحمد ليترك في نفسك أي أثر لو لم تقرأ هذه الكلمات في كتاب يتناول سيرتها، بعنوان فتحية أحمد مطربة القطرين، صادر عن دار الجديد- بيروت (2017)، بتوقيع الباحث الموسيقي محب جميل.
سؤال القارئ
يبدأ جميل كتابه من سؤال القارئ. من هي فتحية أحمد؟. لكن ما يشبه التقديم يبدأه بألبوم صور من محطات حياتها، وحين توغل في ألبوم الصور والشرح المرافق لها، ستتفاجئ بالأسماء والأحداث والمناسبات التي تواجدت فيها فتحية أحمد دون أن تعرفها.
يصعب الحديث عن شخصية المطربة فتحية أحمد التي كان لها حضور غنائي في الفترة نفسها التي كانت فيها أم كلثوم ملكة متوجة، إلى جانب منافستها اللدودة أسمهان، دون التفكير بسبب غيابها عن الذاكرة مقابل الحضور الكثيف للأخيرتين، ورغم اعتكاف فتحية أحمد عن الغناء العام 1955 حتى رحيلها عام 1975، والتي كان من أبرز أسباب صمتها مرض السكر، وهيمنة أم كلثوم، وخلافها مع مدير الإذاعة المصرية، إلا أن من كانت أحد أسباب غيابها، رحلت في العام نفسه الذي فارقت فيه فتحية أحمد الحياة.
البداية مع الريحاني
شاءت الصدف أن يكتشف نجيب الريحاني صوت فتحيّة أحمد وظَرفها، وهي لم تغادر الطفولة بعد، فتبنّاها، ورعاها، قبل أن يتنافس على خطب وُدّها كبار مُلحّني عصر الطرب الذهبي، لكن أيضاً لا وثائق قاطعة عن بدايات فتحية في المسرح الغنائي، وينقل جميل عن مجلة الكواكب، أن دخولها مسرح الريحاني كان بديلة عن شقيقتها الكبرى رتيبة التي كانت تصحبها معها، وفي إحدى المرات مرضت رتيبة، واضطر الريحاني لاستبدال الأخت الكبرى بالصغرى التي كانت تحفظ الأناشيد عن ظهر قلب. وبعد تجربة الريحاني انتقلت فتحية إلى فرقة أمين صدقي وعلي الكسّار، وظهرت في روايات يغلب عليها الطابع الكوميدي، وبعد تألقها مع فرقتي الريحاني والكسار، تم اختيارها بديلة عن منيرة المهدية بعد خلافها مع زوجها محمود جبر، ثم سافرت مع فرقته إلى سوريا لتقديم بعض العروض هناك.
وبعد خمس سنوات قضتها في بلاد الشام عادت إلى مصر لتنضم إلى فرقة أمين صدقي ونجيب الريحاني بدار التمثيل العربي، وشاركت في عدد من المسرحيات كان من أبرزها “مراتي في الجهادية” التي لحنها محمد عبد الوهاب كاملة، كما قدمت مسرحية “بنت الشهبندر” ولاقت فيها نجاحاً لافتاً.
“مطربة القطرين” رسمياً
أما عن اللقب الذي عرفت به وهو “مطربة القطرين” فينسب إلى الشاعر اللبناني خليل مطران الذي تعرف عليها عليها في مدينة زحلة، وطلب من أحمد شوقي ومحمد عبد الوهاب أن يطلقا عليها لقب “مطربة القطرين” رسمياً بين الأوساط الفنية والأدبية، خصوصاً لجهة تنقلها السنوي من مصر إلى بلاد الشام سنوياً، كما لقبت بملكة المواوويل لما لصوتها من مساحة ممتدة. أما الملفت فهو تعاونها مع أبرز ملحني عصرها فغنت سبعة ألحان من قالب الطقطوقة لفنان الشعب سيد درويش بطلب من شركة ميشيان للتسجيلات التجارية عام1919، كما غنت لأبي العلاء محمد مجموعة من ألحانه كان أبرزها “والله لا أستطيع صدك- نظم الإمام عبدالله الشبراوي، ووحياتكم- نظم سلطان العاشقين ابن الفارض، وتظهر فيهما المساحة الصوتية الواسعة لفتحية، كما تعاونت مع أحمد صبري النجريدي ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي الذي تعاونت معه في عدد من القصائد الغنائية المطولة لكبار الشعراء، كما تعاونت مع الشيخ زكريا احمد في مجموعة من الطقاطيق والقصائد.
غياب إعلامي
يعيد محب جميل سبب شح المعلومات الصحفية عنها لظروفها الشخصية و”زيجاتها المتكررة، وانقطاعها عن الحياة الفنية من أجل الاهتمام بمنزلها وأولادها، إلى جانب السفر الـمتكرّر لفترات طويلة قد تستغرق سنوات”، وباءت محاولاته الوصول إلى جيرانها وأقاربها بالفشل، فيما لاحظ أنّ حياتة السيدة فتحيّة “تشغلها مساحة واسعة من الغموض، ولا أعرف السبب تحديدًا، فإمّا أن يكون السبب شخصيًّا رغبة منـها في الحفاظ على حياتـها الخاصة، أو يكون الأمر تسويقيًّا نتيـجة لعدم قدرتـها على التواصل مع الصحافة، تاركة لب الأمر لأعمالها للتحدث عنـها”. إلا أن هذا أعاده عند رغبته بكتابة سيرتها إلى “الرجوع إلى جرد كلّ ما أُتيـح لها من تسجيلات تجارية (ميشيان ــــ أوديون ــــ كولومبيا) والتسجيلات الإذاعية. مع العلـم أن هناك مجموعة من الأعمال الـمسجلة جرت الإشارة إلـيها في نـهاية الكتاب استُخرجت من القوائم الفنّية والفهارس الخاصة بشعراء الأغاني والـملحّنين”.
عام الغياب
انسحبت فتحيّة أحمد من عالم الأضواء مُعتكفةً في بيتها مريضةً صابرةً على تقلّبات الدهر إلى أن وافتها المنيّةُ وحيدةً منسيّةً سنة 1975 وهي السنةُ التي شاءت الصُدف، أيضًا أن تشهد وفاة صديقتها اللدود، كوكب الشرق، أمّ كلثوم!