بقلم: عبدالله الديك
بقية المنشور في العدد الماضي
أوقفت الأهرام سلسلة حديث مع الله لتوفيق الحكيم بعد اعتراض الشعراوي ودعوته لأن يتوب الحكيم أو يناظره، وأجبر الهمج يوسف إدريس على الاعتذار لشعراويهم بعد انتقاده لمنطق الشعراوي المراوغ باللغة العربية، وفساد استدلاله الذي يدير رؤوس مستمعيه دون أن يمحصوها أو يفهموها..الراسبوتينيتة في طبعتها الريفية ترمي بتبسط العامية الفرضيات غير الصحيحة ويكمل الشعراوي بالفصحى استنتاجات واهية متهافتة تدير رؤوس المشدوهين خدرًا، فتعلو الآهات والحمدلات والسبحلات لجمهور مُغيب قرر منذ البدء ألا يفهم، قرر أن يتسلطن بالخدر فقط..
تراجع المفكر زكي نجيب محمود وعدل عنوان كتابه الشهير “خرافة الميتافزيقا” ليصبح بعنوان أخف “موقف من الميتافزيقا”. تصدى لبؤس طرح الشعراوي بأن اختراع منديل كلينيكس أفضل من المنجزات العلمية والأقمار الاصطناعية، والصعود إلى الفضاء، فذكره زكي نجيب محمود بأن الأقمار الصناعية هي التي تنقل صورته وأحاديثه فاقدة المنطق العقلي، وأنه يجلس أمام كاميرا وميكروفون وشاشة صنعها المنجز العلمي والعقلي للغرب، وأن المنديل الكلينكس والسخان والحمام أفضل من الخلاء واستخدام حجرين.
أعلن الشعراوي الحرب على من وصفهم بالعلمانيين وطالب زكي نجيب محمود للمناظرة، وكالعادة تراجع زكي نجيب محمود أمام هجوم الملايين الكاسح للذود عن حياض شيخهم، وعدَّل مُرغمًا مقدمة واحد من كتبه بعدما هاجمه الشعراوي… أحس الشعراوي لاحقًا باللوم فزار مفكر مصر الكبير زكي نجيب محمود في مرضه الأخير بعد ضراوة وقسوة الهجوم عليه.
نافق الإعلام الرسمي التسونامي الوهابي ورعاه على عينه؛ فأفردت الأهرام صفحات مفروشة لزغلول النجار يشرح للشعب الجديد المزيد من سطل الإعجاز العلمي، والطب النبوي، ووهمية نظرية التطور، وزيف العلوم الحديثة أمام علمه القرآني، وتم تخصيص برنامج تلفزيوني للنجار في وقت الذروة ليحقن الشعب بجرعات خرف الإعجاز، وبتخريجاته الواهية.
فرح المصريون بجرعات التعاطي المجانية، وطلبوا المزيد! .. سارعوا يبحثون عن حلول لبؤس واقعهم، وانحطاطهم الحضاري في نهايات القرن العشرين بطلب الحلول من موتي صحراء القرن السابع الميلادي، أصبحوا يمضغون أقوالهم، ويتمثلون بدائيتهم، ويستحضرون أفعال بداوتهم، هاجر المصريون شعوريًا أفواجًا إلى الماضي العرباني السحيق، إلى أزمنة ظلامية تمكنت منهم ومن مصرهم في فترة ضعف تاريخية فريدة… تسمت الشوارع والميادين والمدارس والقطع البحرية بأسماء غزاة وجلادي المصريين، تحولت مناهج التعليم إلى رافعة وإسناد لتسونامي الوهابية والسلفية الجارف.
بكوا أو تباكوا وبربروا خلف وعاظ ومُقرئين سلفيين بضاعتهم الموت، والعذاب، ونصف المرأة الأسفل، وفقه الحيض، والنكاح على الوضع الصحراوي…أصبحت مصر المتحضرة أكبر مُنتج للفتاوى المليارية التي طالت حتى غرف النوم، وملابسنا الداخلية وعلى أي جانب ننام، تحرك المصريون بالفتوى والدعاء قبل كل شيء، فدعاء لركوب الدابة والسفر والنكاح والنوم والاستيقاظ والخلاء والأكل، تفرغوا لعبادات الشفاه والتمتمة والترديد ورياضات الحفظ والاستظهار.
انهمرت الفتاوى من منصات إفتاء رسمية وسلفية وأهلية وإنترنت. تحول الإعلام إلى الدروشة في برامجه، فطالت الدروشة برامج الطبخ، ومباريات الكرة، ومكلمات التوك شو، والاحتفالات الوطنية، وديباجات المُراسلات والمراسيم الرسمية للدولة.
رُصدت الميزانيات المليارية لمؤسسات دينية تعتاش من متون وشروح موتى عصور الظلام… تعتاش من الوعيد والتخويف بفزاعات الموت والعذاب وحفر النار…انتشر فقه الأفخاذ وتلخص شرف الأمة في غشاء وزائدة لحمية بين فخذي أي أنثى…..
رُصدت المليارات كميزانيات دون أدني مردود عقلي أو علمي أو أخلاقي.. أشرق على المصريين عصر العبادات والشعائر والتدين الشكلاني وفسدت الأخلاق والمعاملات، فعلى كل مكتب مرتش مصحف، وفي كل تاكسي يسرق بإغلاق العداد مصحف وبث قرآني، كل متكاسل مهمل صدر للمجتمع وجهًا دينيا يزينه الفطر كصدادة لانعدام الضمير. كل نهب ولصوصية وجدت في الدروشة ظهيرًا وإسنادًا دينيًا لجرائمها جاهز ومتحقق…
استمر المصريون في طلب المزيد من الجرعات.
تم سب أم كلثوم من كشك، ونعتها بأرخص النعوت، والدعاء عليها:
(خدك المولى عز وجل…)
وحصلت السيدة كعبد الحليم على تذكرة إلى حفل الباربيكيو الأخروي كما بشرها الشيخ الذي تكشفت له الحُجب وبانت له العلامات.
بارك الشعب خطوة السادات بدعم من أسماهم “المجاهدين” في أفغانستان في المانشيت الرئيس للأهرام بعدما أعلن نفسه “الرئيس المؤمن” أو رئيس مسلم لدولة إسلامية، وليس رئيسًا لكل المصريين.. تم سب موسى صبري رئيس تحرير جريدة الأخبار بصرخة من كشك مذكرًا جمهوره المغيب بمسيحيته باسمه الثلاثي: موسى صبري شنودة
كان الطفل داخلي يموت لصالح جبروت التأسلم والتصحر المتعطش لكراهية الحياة، وتقديم قرابين الرعب والخوف وفزاعات الموت، والانسحاب من ممارسة فعل الحياة من أجل رب جديد، وإسلام جديد انفجر مع آبار النفط.. عرفت للمرة الأولى أن ما كان عليه المصريون قبل البعثة النبوية المباركة عام ١٩٥٢ لم يكن إسلامًا، وأن رجال حسن البنا قد حضروا، وسيدمر الضابط كمال الدين حسين، ومساعده سيد قطب تعليم، ووعي وطن كامل بمناهج جديدة، بإلغاء مادة الأخلاق وتدريس كتاب دين يفرق بين أبناء الوطن الواحد ويشيع الفرز والتمييز. بمناهج تخلو من مفردة “مصر” لصالح مفردة “عربي” ومن مفردة وطن لصالح مفردة قبائلية “قوم” و”قومي” فبلادنا الجمهورية العربية المتحدة وليست مصر، ومنتخبنا قومي وليس وطني وتلفزيوننا العربي وليس المصري.
كانت البراءة تنسحب رويدًا رويدًا، وأقاربي يطلبون مني التخلص من روايات إحسان عبد القدوس، ومجموعات كاملة من شرائط كاسيت، وموسيقى لصالح تكملة سلاسل تفسير خرافية تُنشر على حلقات، وموسوعات دينية وكتب دينية تباع على أرصفة الجوامع..
أكره السبعينات والثمانينات فقد كانت ذروة الحريق الذي اشتعل قبلها بعقدين، ذروة طمس الهوية المصرية، وتحويل هذه الجموع التي نراها اليوم إلى مسوخ شائهة، تلوك رطانة التغييب، والبغبغة صباح مساء بالعبارات التراثية المعلبة من شاكلة : ميزان حسناتك، وبارك الله فيك، وقدر الله، والبقاء لله، وظهر الغيب وغيرها من مفردات قاموس مرويات قبائل الرمل، يلوكونها كاللبان المر، كعبادات تمتمة لسانية، كقرابين تُبذل آناء الليل وأطراف النهار من وعينا المغسول بالخرافة
الذين جلسوا القرفصاء مربعين تحت أقدام الشعراوي، وهو يجرف عقل أمة من نخبها إلى بسطائها، من ريفها إلى حضرها بأدائه الريفي المُمسرح، وهو يعمل كمروج لناهبي توظيف الأموال، وهو يحرم الحق في الحياة لمريض يحتاج إلى زرع عضو، وهو يتفاخر بفرحته بهزيمة وطن.. وهو يدس الترهات بالتبسط حينًا والتقعر بصنعته اللغوية حينا كي يمررها ويستقبل آهات الإعجاب من مستسلمين عطلوا عقولهم.
والذين مصمصوا الشفاه إعجابا بجلا جلا مصطفى محمود وهو يعرض مواد فيلمية علمية أنتجها الغرب، ومعامل أبحاثه النشطة، فيشوه مصطفى محمود معناها، ويعيد تدويرها دينيًا كي يصبح العلم العقلي، والبحث العلمي، ومُنجز جهد الغرب على مقاس مروياته، وتقولات أموات جزيرة العرب فيلوي عنق الآيات بزعم أسبقيتها على منجزات العلم والطب، ثم ينهي حلقتة باللحظة المحببة، لحظة التشبع والاكتفاء: بسبحان الله مع ناي عفت.
الذين كبروا وحمدلوا وسبحلوا وحوقلوا، وعلت آهات إعجابهم لسباب كشك المتدني. الذين فرحوا وآداب وفنون مصر وقوتها الناعمة يتم تغسيلها على خشبة الوهابية.. الذين كبروا مع كل فنانة تتوب توبة النايلون والبوليستر.. مع كل مسرح يُغلق في وسط البلد..مع كل فرقة يتم تسريحها..مع كل دار سينما تتحول إلى سوبر ماركت، مع كل نشاط فني مدرسي وجامعي يتم تحريمه..
الذين سمعوا عن شورت المباريات الشرعي، وملابس البحر الشرعية، والعقيقة والرقيا، والحجامة، والختمة، وعمرات قصف النُصب التذكاري الحجري للشيطان، وتقبيل الحجر لغسيل الذنوب.
الذين سمعوا عن صكوك المرابحة البنكية بما يرضي الهوس، وسجدة النجيلة فوق بُصاق الملاعب، ومنتخب الساجدين، ومواكب الهائمين في سطلهم المقدس.
الذين حملوا نعوش الموتى دون غطاء اقتداء بالبادية، وربعها الخالي، لنرى الموتى في أكفانهم يتأرجحون، بعدما كانت جنازات المصريين قديما تمضي في جلال في نعوش وتوابيت مغطاة مكسوة بأغطية خضراء وبيضاء كميراث حضاري منذ آلاف السنين.
الذين شيطنوا مصر وتاريخها، وملوكها لصالح مرويات وقصص إبراهيمية وتوراتية لم يثبتها دليل أركيولوجي واحد… فأصبح الفراعنة وملوك حضارتنا صنوًا للكفر بإسناد توراتي عبراني متأسلم، والذين سفهوا وحقروا انتصارات، وأعياد وطن، وحرموا البهجة، والمودة بين أفراد الوطن الواحد، وطاردوا بالتحريم كل فرحة تولد.
تحول المصريون إلى عميان أسكرهم الخدر والهوس، مستسلمين كالمنومين لمنهج: كيف تدمر وعي وطن بنفسك وبيدك دون مساعدة من حاقد يراك ويبتسم من بعيد.
نحن نجني حصاد ما زرعوا في كل لحظة، حصاد جنايتهم على عقول الملايين التي تحولت إلى كائنات منسحقة دينيا، تهذي برطانة الرجعية، وهي تعيش كسلها العقلي والمعرفي، تعيش تعاطيها وتواكلها، وخدرها المقدس.
بقيت أكره القاموس الرجعي المُعلب وأقول: صباح الخير، ومساء الخير، والبقية في حياتك، وأرد على التليفون بألو ….. صباح الخير يا وطني؛ تلك التحية المصرية المقدسة لشعب زراعي مستقر يتمنى الخير والنماء والحياة، السلام عليكم تحية الحرب لشعوب عبرانية وعربانية شريعتها المقاتلة وغياب الآمان لذا فهي تبدأ بالسلام “شالوم” تيمناً للأمان الغائب…
عموما لقد نسيت كشك وكل كشك، استعدت وجودي، وفطرة الطفل المدهش، وبقيت أحب كتبي، وموسيقاي، وأسفاري، بقيت أحب الأطفال والطيبين، والشارع، والعلم، والناس والحياة، والنماء.. انتصرت لوجودي وبحثت عن الإنسان في كل نفس صادفتها. توقفت عن البغبغة، تخلصت من كل بهلول يحاصر رأسي، وتحيزت لإنسانيتي فقط دون خرف وبغبغة ووهم.
تابعت مطمئنًا منجزات العلم والعقل والفكر والفلسفة والآداب والفنون والتمدين والتحضر وهي تطحن خرافاتهم طحنًا كل يوم، وتعريهم، فيتنازلون صاغرين معيدين تموضعهم “بطريقة لف وارجع تاني..!” مع الحضارة بخرف حربائي جديد، وتخريفة جديدة كعاطلين متنطعين متطفلين على المنجز العقلي والإنساني، كهوام ومتسلقة خارج سياق الإنسانية.
أحببت وجودي، واحترمته كمنحة ونعمة حتى يحين الرحيل بسلام، الرحيل الإنساني إلى رحاب أرقى وأسمى من هلوساتهم الأحفورية؛ متجاوزًا فزاعاتهم ومرعباتهم عن الموت والقبور، وأفران سعيرهم، وثعابينهم، وسلاسلهم النارية..
بقيت أحب عبد الحليم، استعدته واستعدت كل ما يصنع وجداني وعقلي، وبرطانتهم وبغبغتهم المغيبة؛ أتمنى أن أُحشر معه؛ ذلك بالطبع يسعدهم جدًا، أن أكون مع حليم في رحاب أرقى لن تعيه نفوسهم المتصحرة لهو أفضل من حديقتهم الجنسية، حلم الأعرابي البدائي بالفاكهة وأنهار اللبن، والعسل والخمر، ومجاميع الغلمان والمحظيات الهائجات، أو جنة هم من ساكينيها.
وللعقل سلام