بقلم: ريتا حبيب قازان
ويبقى الإدمانُ قضيّةً مطروحةً بتعاقب الأزمنة، احتار فيها الخالقُ فيما خَلَق، وضاعَ فيها الخَلقُ دنيا ودين ..
نحيا الإدمانَ دونَ أن نشعر.. فهو لا يَكْمن فقط بمُدمِني الممنوعات، الخمر، القمار، أو ممارسة كلّ شيء خاطئ أو ممنوع في الحياة، أو محرّم في الدّين ..
إنَّه واسعُ الأفقِ دون سقفٍ أو حدود .. هو لذّةُ المدمن، مع غضِّ النَّظر إذا كانت مُمارستُه صحيحةً أو لا .. وبالرُّغمِ من أنَّه وجعٌ وضعف، هو أيضًا شُعلةُ حياة، ولكنَّه بالحالتين، أذيَّة ..
الإدمانُ رغبةٌ جامحةٌ، ضعفٌ للعقلِ والتَّمييز، إضرابٌ لنظامِ المكافآت في الدِّماغ .. هذا الشُّعورُ بالنَّقصِ والخوف، والهروبِ من الواقعِ يُدمي الإنسان ..
في الحبِّ من يدمن اللَّيلَ وعقاقيرَ الهوى، يُناجي النُّجومَ ويعشقُ ليالي السَّهر .. عاشقُ اللّيلِ يدفنُ اشتياقَه وقلقَه وراءَ ستائر العتمة، ويبوح بأسرارِه الدَّفينة لكأسِ نبيذٍ معتّقٍ، بوحًا صامتًا .. ويبقى، أنَّ العاشقَ مدمنُ عشق، فاقدٌ للواقع، ضحيّةٌ للتملُّكِ والامتلاك، لعبةٌ للوقت، انتظارٌ واشتياق، وحرمانٌ تحت إسم الحبّ ..
الخيانة وجهٌ آخرُ للإدمان، فعلٌ مرتَّب، فاعلٌ مركَّب ومفعولٌ به مكبّلُ، فكريًّا أو جسديًّا، سلوكٌ أعمى، رمالٌ عاصفةٌ تهبُ دومًا في صحراءِ الضَّجر، فتَلُفُّها خطايا لا يطهِّرها سوى صَلواتِ النَّدم ..
وأسوأ الإدمانِ هو إدمانُ المخدِّرات والقمار .. نفقٌ معتمٌ لا بصيصَ نورٍ في آخره، طريقٌ مرفقٌ بالعذابِ والمذلَّة، سلاسله تكبِّلُ العقل َفيتوقف عن الإرسالِ والتَّمييز، يغرق في الوعي واللَّاوعي، في الصَّواب والخطأ، ويضيع ..
الغيرةُ المفرطةُ .. إدمان، تُقلِّصُ روابطَ الثِّقة، فتقتلَ صاحبَها وتقضي على الشَّريك، فيموتون بإسم الحبِّ في اليوم آلاف المرَّات ..
الشكُّ إدمان، تتقلَّبُ صُوَرُه على جدارِ مخيِّلتِنا أشباحًا سوداءَ لا يطالُها الأبيضُ، فنغرق داخلَ دوَّامة، لا نلقى سبيلًا َللخروج منها ..
الثَّورة ُوالحروبُ إدمان، دماءُ الشَّهادةِ تروي التُّرابَ والقضيَّةُ بالوراثةِ من الأبِ إلى الأبناء .. والأوطانُ على طاولاتِ الحوارِ، مصيرًا مجهولًا ..
إنَّنا مدمنون في كلِّ اللَّحظات، في معتقداتِنا وعاداتِنا وما ورثناه ..
نستيقظُ مع شروقِ الشَّمس، على فنجانِ قهوةٍ سوداءَ بلا سكَّر، لا أحدَ يمسُّ صباحَنا ولا عذريَّةَ صمتِنا، على صورةٍ تتكرَّرُ يوميًّا بلا انقطاع .. إدمانُ القهوة لغزٌ يصعبُ فهمَه، كما إدمان التَّدخين، والتَّبضُّعِ وارتيادِ المقاهي، ودور السينما والسَّهر ..
إنَّ بعض المرغوبَ إدمانٌ للممنوع، والغريبُ إذا تأمَّلناه من بعيد، نجدُ أنَّ الحبّ، الغيرة، الشوق، العتب، هي حالات من الإدمان اليومي، وتفاوتٌ لمشاعرَ مكبوتة وصامتة ..
ناهيك عن حبِّ الأمّ، هذا الإدمانُ المقدّسُ المجسَّدُ في كلِّ لحظاتِ العمر، فهي تأتي بأطفالِها للحياة من البابِ الضيِّق، تربّي، تسهر، تصلّي وتبكي، ومن دموعها تغسلُ القلوبَ بالحبِّ والمحبَّة، لتُشرِّعَ أبوابَ المستقبلِ بالدَّعوات ..
ما أسمى منه إدمانًا .. المحبَّة والمحبَّة، ومن ثمَّ المحبَّة،
وما أرقى منه إدمانًا، من يدمن المحبَّةَ في الماءِ والهَواء ..
في النِّهايةِ، الإدمانُ قرار، وداوها بالتي كانت هي الدَّاء ..