بقلم: محمد منسي قنديل
صدر الجنيه المصري غريبا، في دولة محتلة تعتقد أنها مستقلة، ولد قويا اسما، واعتقد أنه افضل من الاسترليني عملة الدولة المحتلة، وكان محصول القطن يعزز هذا الاعتقاد، ولكن جاءت الحرب العالمية لتنزع هذا الوهم، استغل الانجليز قوتهم القسرية وقاموا بنزع غطاءه الذهبي، سلبوا من البنوك اكداس الجنيهات التي تجمعت بعد أن تحول إلى العملة الورقية، من يومها والجنية المصري عاريا لا يجد من يستره، زمن الهيبة كان قصيرا، صدرت العملة الورقية وهي تحمل صورة فلاح مصري له لحية يخالطها الشيب، وقيل انها صورة الخادم الشخصي للملك فؤاد الأول والذي تنبأ له أنه سيكون ملكا، وصار هذا الجنية من اندر العملات الورقية، ولكن الزمن لم يرحمه، هبطت صورة الفلاح وصعدت صورة الملك، ولم يكن هذا مهما، كان المواطن المصري فقيرا، من النادر أن يمتلك جنيها كاملا، يكفي أن تكون في حافظته بضعة «برايز»، الدولار نفسه لم يكن يساوي إلا بضعة قروش، وحتى بعد أن سقطت الملكية ورحل الاحتلال وصعد نجم عبد الناصر ظل الجنيه المصري يساوي اثنان ونصف من الدولارات، ولكن عبد الناصر كان أدرى الناس بضعفه، كان مشروعه القومي هو أن يصنع غطاء جديدا يدعم به هذه العملة العارية، لم يكن في استطاعته أن يستعيد الذهب الذي سلبه الانجليز، فصنع غطاء من نوع آخر، أخذ ينشئ المصانع ويبني السدود، وللمرة الاولى منذ قرون طويلة وجدت مصر كفايتها بشق النفس، كانت محاصرة تفتقد للعديد من الاشياء ولكنها قانعة، تمتلك السد العالي وقناة السويس ومصانع الحديد والصلب وعشرات المصانع المحلية، وايضا مصنعا لإنتاج السيارات، كان هذا كافيا لتحصين الجنيه رغم الحرب ورغم الهزيمة القاسية، ولكن كان هناك من هو اخطر من ذلك، سوس ينخر في عظام النظام هم اهل الثقة، احباء النظام ومنافقوه ولصوصه أيضا جرذان الدولة الوطنية الذين حولوا كل حاكم إلى طاغية، وكل مشروع قومي إلى «عزبة» خاصة بهم، بقرة حلوب يستنزفون لبنها وخيرها، موظفو الدولة الذين تحكموا في رقابنا وخربوا مؤسساتنا منذ الخمسينات، كم جيلا من البشر ولدوا وعاشوا في ظل وجودهم، كم عدد النكسات والهزائم التي شهدوها، وماذا عنكم التدني الاخلاقي الذين انحطوا إليه، وضياع مشروع التعليم وتوارث السلطة دون وجه حق، وسط كل هذه الظروف كان لا بد أن يعاني الجنيه المسكين وان يفقد ظهيره الطبيعي.. المواطن المصري.
عندما جاء السادات بطلا ومنتصرا في حرب اكتوبر لم يكن سعر الدولار يتجاوز الستين قرشا، ولكنه كان يعد العدة لأكبر انقلاب اقتصادي شهدته مصر، كان الرئيس العاشق للغرب يريد أن ينفتح عليه دون ضابط ولا رابط، تخلى عن حلم التنمية المستقلة، وحول مصر لحلقة تابعة في سلسلة الاقتصاد العالمي الجامح، الحلقة الأضعف، لم تكن المؤسسات المصرية قادرة على المنافسة أو التطور بعد أن تم سرقتها واضعافها، صناعة الغزل والنسج التي كانت إحدى اقوى نقاط التصنيع المصري تم حصارها واصاب العفن منتجاتها في المخازن، ولم تجد صناعة الصلب الوقود اللازم لإشعال افرانها فانطفأ الواحد اثر الأخر، وحتى مصنع السيارات الوحيد، الذي بني في الوقت نفسه مع كوريا الجنوبية، تم تخريبه ووصل به الحال أن يباع علي سبيل الخردة بينما السيارات الكورية تسير فوق كل شوارع العالم، امثلة بسيطة لانهيار كل اسوار الحماية للجنيه المصري، تمزقت اوراقه الهشة امام عمليات المضاربة التي اقتحمت السوق المصري الذي لم يكن مفتوحا من قبل، سوق ساذجة لم تستوعب قوانين المنافسة الجادة، خضعت فقط لقوانين المضاربة المسعورة، وتولدت من خلال حكم السادات طبقة شرهة من المستوردين والتجار كان على رأسهم واحدا من اخوته، وعند مقتله كان الدولار قد تضاعف ثمنه واصبح يساوى 1.5 جنيها.
مبارك لم يأت وحده إلى الحكم، جاءت معه مجموعة من اشد الاشخاص شراهة وطمعا، لم يكن لديهم هناك هدف امامهم غير بيع اصول الوطن، مصانعه وشركاته ومؤسساته، باعوا حتى قطع الآثار النادرة التي لن تتكرر، لم يردعهم شيء، لا اعذار اخلاقية ولا موانع قانونية، باعوا المؤسسات بأسعار بخسة، بما في ذلك ما يتصل بها من اراض ومرافق، وكان ثمنها احيانا يفوق ثمن المنشأة، عمليات بيع مشبوهة مليئة بالعوار والسمسرة والرشوة، اكتشفها القضاء فيما بعد ولكن السيف كان قد سبق العذل كما يقولون، كرر رجال مبارك مافعله الإنجليز لم يسرقوا الذهب لأنه لم يعد باقيا منه شيء، لكنهم هدموا الاسوار التي تحمي الجنيه المصري، قضوا على قاعدته الانتاجية، حولوه إلى غريب في وطنه واعتمدوا فقط على الاستيراد دون ان يصدروا شيئا ذات قيمه، وخلال الثلاثين عاما الكابوسية التي حكم فيها مبارك ظل الجنيه يتراجع وفي نهاية عهده سجل الدولار 5.79 جنيها، أي أنه فقد 4.29 جنيها من قيمته، اكثر من اربعة اضعافه، اكثر مما حدث له منذ ان ارتبط بالدولار 200 مرة، كل هذا وديون مصر لا تكف عن التصاعد، تدفقت على مصر كثير من المساعدات ولكن تم سرقتها معظمها، لم تسند الجنيه، تسربت من خلفه إلى جيوب كبار المسئولين، كلهم جمعوا ثروات هائلة على رأسهم مبارك واولاده ، بينما اصيبت مصر بالإفلاس، وقامت الثورة على مبارك بعد فوات الاوان.
هل كان التعويم هو رصاصة الرحمة الأخيرة للجنيه المصري، هل كتب عليه أن يموت غريبا كما ولد؟ هل هذا هو المصير الأخير لعملة الفقراء؟ العملة الوحيدة التي يدبرون بها قوت يومهم ويعلمون بها اولادهم، لقد قدمنا الجنيه قربانا لقرض البنك الدولي الذي لا تتجاوز قيمته 12 مليار دولار، بينما كانت هناك معونات قيمتها 25 مليار دولار من الاشقاء في الخليج كان يمكن أن تنقذه لو احسن استخدامها، كان من الممكن ان نشحذ طاقات مصر ونشغل مصانعها المعطلة ونسترد اموالها التي سرقها لصوص العهد السابق ومازالوا يستمتعون بها، وكان يمكن ان نرشد الانفاق الحكومي ونسد ثغرات الفساد التي تستنزفنا، كان يمكن اصلاح الكثير بدلا الطنطنة في اجهزة الاعلام وتصوير السم على أنه دواء ناجع، الحقيقة أنه سم زعاف ارغمنا جميعا على تجرعه، لقد ضحينا بعملتنا الوطنية من اجل الوهم، واقتطعنا من اقوات الفقراء ولم نعطهم إلا وعودا زائفة، فليرحمك الله ايها الجنيه.