بقلم: المطران ميلاد الجاويش
مطران كندا للروم الملكيّين الكاثوليك
في شهر أيّار، ما أكثر ما تتفوّه الأفواه بما يليق من تكريم لمريم العذراء! ها نبوءة بنت الناصرة تتمّ: «فها منذ الآن تُطوّبني جميعُ الأجيال» (لو 1: 48).
مريم ملكة القلوب في شهر أيّار، وفي شهر آب في الكنيسة الشرقيّة، وفي شهر كانون شهر الميلاد. يلذّ لمريم أن تمتلك القلوب، لا الأفواه فقط.
تكريس شهر أيّار للعذراء له خلفيّة تاريخيّة رائعة. في أَمدٍ بعيد، كانت مريم في تَحدٍّ مع امرأة أخرى، مع إلاهة تناقضها تمامًا. لنرجِعْ في التاريخ إلى أكبر مدن آسيا الصغرى: أفسس، المدينة العظمى.
أفسس، عاصمة إقليم آسيا وأكبر مدنه؛
أفسس، مدينة أرتميس إلاهة الخصب؛
أفسس، مع هيكل أرتميس الذي لا يتصوّر عظمتَه عقل، عظمةً أدخلته بين عجائب الدنيا السبع؛
أفسس، مدينة الفلسفة اليونانيّة الساحرة، مع عبقريّة أبنائها هوميروس وهيراقليتوس وبيتاغورس وهيرودوتس وطاليس؛
أفسس، مدينة الدعارة المقدّسة والفسق والمجون، التي كانت تُمارَس في الهيكل تحت نظر أرتميس؛
أفسس، مدينة الثروات والأموال، إليها كان يؤتى بكلِّ ذهب آسيا كي يُحفَظ في حمى أرتميس إكرامًا لأرتميس.
إلى أفسس هذه بالذات، المدينة الخالدة، وفي يومٍ من الأيّام، اصطحب معه صيّادٌ جليليّ، حقيرُ النسب، امرأةً فقيرة متواضعة، هي أيضًا آتية من بعيد.
منذ ذلك اليوم، لن تَعُود أفسس كما كانت!
منذ ذلك اليوم، ابتدأ مسلسل توبتها، ولو بشكلٍ خفيّ لا يدري به أحد غير الله!
لماذا؟ لأنّ مَن دخل يومها أفسس كانت مريم، بنت الناصرة وأمّ يسوع، بصحبة يوحنّا الرسول بن زبدى.
مقابل الهيكل العظيم، سكنت مريم مع يوحنّا في بيت حقير، في ضواحي أفسس.
من تراه يقول إنّ هذه المرأة المتخفّية التي دخلت المدينة من غير أن ينتبه إليها أحدٌ، ستقلب مدينةً عظيمةً مثل أفسس رأسًا على عقِب؟ منذ ذلك اليوم، بنت الناصرة هذه ستغلب أرتميس العظيمة وستملك على أفسس، مُلْكٌ لن يُعلَن إلاّ بعد أربعمئة عام ونيّف. كيف؟
من أفسس بالذات، وفي سنة 431، بعد أن عَقَدَ الآباء القدّيسون، البالغ عددهم المئتَين، مجمعهم المسكونيّ الثالث، خرجوا من الكنيسة مرنّمين بلا شبع، على قدر ما أُعطيَت حناجرهم من قوّة: «إنّه واجب حقًّا أن نغبّطك يا والدة الإله الدائمة الغبطة… إنّك حقًّا والدة الإله، إيّاك نعظّم».
من أفسس بالذات أُعلنت مريم، لا أمًّا للمسيح الإنسان فحسب («كريستوتوكوس»)، بل أيضًا والدة الله («ثيوتوكس»)، اللقب الذي لا نزال ننعم به حتّى اليوم.
وشهر أيّار الذي كان مُكرَّسًا لأرتميس، أصبح مكرَّسًا لمن هي أرفع قدرًا وأمجد بلا قياس من أرتميس. أصبح مكرَّسًا لوالدة الله. زياحات أرتميس أُبطلتْ وتجيّرت لمريم، مع الفرق أنّ زياحات هذه كانت غايةً في النقاوة والطهر.
هكذا، غلبت طهارةُ بنت الناصرة دعارةَ أرتميس وفسقها الماجن. وابنها يسوع، النجّار، غلب بإنجيله الحيّ عباقرةَ أفسس وكلّ فلسفتهم. يا لها من مفارقة!
ما جرى في أفسس، يجري أينما كان، بل هي قصّة كلّ واحد منّا مع العذراء. رائعة هذه المرأة التي تدخل القلوب من دون جلبة، وتغيّرها بصمتٍ كلّيّ. أينما كان، نراها تعمل بصمت وتحبّ حتّى الإرهاق.
في الأناجيل نراها الصامتة الكبرى التي لا تتفوّه إلاّ بما ندر من الكلمات. أقفلتْ فمها وأعملتْ قلبَها: «كانت تحفظ جميع هذه الكلمات وتتأمّلها في قلبها» (لو 2: 19).
مريم مختصّة في «جراحة» القلوب: في تضميدها، في توسيع شرايينها كي يتدفّق فيها حبّ ابنها يسوع.
تذكّروا: عندما يتّخذ الحبُّ اسم امرأة، تكون «مريم»!