بقلم: شريف رفعت
أخيرا جاء اليوم الذي إنتظره طويلا. خلال دقائق سيبدأ سباق الماراثون، سباق ماراثون هذه المدينة واحد من أشهر الماراثونات و أكثرها تقديرا و إحتراما في الأوساط الرياضي، إستعد طويلا لهذا السباق، بدأ بتمرينات اللياقة و طول النفس، ثم العدو لمسافة عشرة كيلومترات ستة أيام في الإسبوع، اليوم السابع يجري حوالي عشرين كيلومترا أو ما يسمونه نصف ماراثون، في آخر إسبوعين جرى المسافة كاملة إثنين و أربعين كيلومترا، قطعها في زمن معقول جدا ساعتين و نصف، تعمد أن يكون عدوه في نفس مسار الماراثون الفعلي حتى يعتاد عليه و يعرف خفاياه. إتبع نظام تغذية مدروس لعدائي المسافات الطويلة يوفر له الطاقة اللازمة و يبني عضلاته، إشترى حذاء عدو مخصوص مكتوب على صندوقه «تقنية عالية توفر راحة و سرعة».
هناك الآلاف حوله، أغلبهم يحلمون بإتمام السباق، القلة ـ و هو واحد منهم ـ يحلمون بالفوز بالمركز الأول، بدأ أغلب المتسابقين في القيام بعملية الإحماء و الغرض منها إعداد عضلات الجسم للمجهود القاسي الذي ستتعرض له خلال دقائق و لمدة أكثر من ساعتين، الوجوه حوله متفائلة و متحفزة، منظمو السباق إختاروا أن يبدأ في الساعة السابعة صباحا كي يجنبوا المتسابقين حرارة الجو، هناك نسمة هواء باردة منعشة تعمق من الشعور بالترقب و التحفز. إستيقظ هذا الصباح مبكرا، أكل وجبة خفيفة ركز فيها على السكريات كي تعطيه الطاقة اللازمة، دهن ما بين أصابع قدميه بالفازلين حتى يتجنب تسلخهم من الاحتكاك معا أثناء العدو، إرتدى حذاء العدو الجديد و الذي سبق إرتداءه مرتين من قبل فهو يعلم أنه من الخطء أن يرتدي الحذاء الجديد لأول مرة في السباق.
نادى منظمو السباق على المتسابقين فاصطفوا في صفوف متقاربة عند خط البداية، إنطلقت طلقة البداية فانطلق المتسابقون في سعيهم الحثيث نحو المجد نحو الفوز بأحد أهم الأحداث الرياضية في العالم، إنطلق معهم يحدوه أمل قوي جميل. هو يعرف الاستراتيجية اللازمة للفوز، أنهى أول عشرة كيلومترات، جرى بهدوء جريا حثيثا دون أن يضع ضغطا على نفسه أو يرهقها، الآن هو يعدو بسرعة أعلى، يستمتع بالعدو، يشعر أنه يمكنه أن يستمر هكذا لعدة أيام، على جانبي الطريق هناك بعض المشجعين يصيحون بهتافات تحث العدائين على الاستمرار، بعضهم يحمل أعلام بلاد المشتركين في الماراثون، هناك طاولات على طول الطريق لتزود العدائين بماء الشرب، بعض العدائين يضعون سماعات على آذانهم للإستمتاع بموسيقاهم و أغانيهم المفضلة أثناء العدو، هو يفضل أن يكون مع أفكاره و مشاعره، أغلب المتسابقون يعدون معا في مجموعات، يعتقد أنهم يستمدون الحافز من وجودهم وسط مجموعة، هو يفضل أن يكون بمفرده، يسمون شخصا مثله يفضل الوحدة و يتصرف دون معونة الآخرين «الذئب المنفرد»، يعجبه الوصف، وجده ينطبق عليه ليس في عدوه للماراثون فقط لكن في حياته عموما.
زاد من سرعته، أخذ يتجاوز غيره من المتسابقين، كلما وجد مجموعة تسبقه يضع في إعتباره أنهم الهدف الذي يجب أن يتخطاه، يعطيه ذلك حافزا على السرعة و على الاستمرار، أنهى ثلاثين كيلومترا، في العشرة التاليين شعر ببداية الإرهاق و التعب لكنه إستمر محاولا الاحتفاظ بنفس السرعة، أكيد الجميع يشعرون بالإرهاق و التعب، بدأ بعض المتسابقين ينسحبون، زاده هذا إصرارا على الاستمرار، قل عدد من حوله من العدائيين إما لأنهم إنسحبوا أو لأنه تجاوزهم، ترى ما الذي يدور في أذهان العدائين الآخرين، أكيد جميعهم يحلمون بالفوز بالمجد بالتقدير، هو وضعه مختلف فهو يبحث عن تعويض عن واقعه البائس، عن وظيفته المتواضعة ـ في الواقع وظيفته الحقيرة ـ و التي هي الوحيدة المتاحة له، تعويضا عن أسرته رقيقة الحال ـ في الواقع أسرته المتدنية ـ و التي هي قدره، فوزه في هذا الماراثون لن يكون فقط إنجاز لكنه ضرورة، ضرورة كي يحترم نفسه و يرضى بواقعه، الفوز إذا لا مفر منه، الفوز هو مسألة حياة أو موت معنوي.
يستمر رغم تعبه في تجاوز غيره من العدائين، أنهى أربعين كيلومترا، شعر بإرهاق شديد، بألم في جميع عضلات جسده، باقي كيلومتران إثنان فقط على نهاية السباق، في الواقع يرى خط النهاية على بعد. هناك إثنان فقط من المتسابقين أمامه على بعد حوالي مئتين متر، يجب أن يتجاوزهم، أسرع في العدو رغم آلامه، المسافة بينه و بينهما تتناقص، أيضا تتناقص المسافة بينهما و بين خط النهاية، يصبح عدوه كأنه في سباق مسافات قصيرة، منتهى السرعة مصحوبة بمنتهى الألم. يقترب أكثر و أكثر منهما، لا يشعران أن أحدا يحاول تجاوزهما، أخيرا يعدو محازيا لهما، أحدهما فجأة يفقد المقدرة على الاستمرار من كثرة الإرهاق، يكمل المسافة الباقية سيرا ملتقطا أنفاسه و قانعا بالمركز الثالث، الآخر يكمل العدو ليصبح الماراثون سباقا بين إثنين لمسافة حوالي ثلاثمئة مترا، ألامه تقتله، لكنه لن يتوقف، النصر و المجد و التقدير ينتظرانه بعد ثوان معدودة، يقتربان معا من خط النهاية، كل منهما يحاول أن يبذل أقصى ما في وسعه كي يسبق الآخر، يفكر تفكيرا إيجابيا، سيفوز، سيفوز، المركز الثاني لا يليق به، ثوان قليلة صعبة و يفوز بعدها بالمركز الأول.
يجلس على مقهى بالقرب من خط نهاية السباق، صياح الجمهور يشتد علامة على أن المتسابقين يقتربون من خط النهاية، يصبح الصياح هستيريا، يستنتج أن هناك منافسة قوية محتدمة على المركز الأول. يحملق طويلا بأسى في ساقه اليسرى الضامرة التي شوهها شلل الأطفال و يلعن عالمه الإفتراضي.