بقلم: علي عبيد الهاملي
كاتب وإعلامي إماراتي
في تجربة أجراها أستاذ جامعي مع طلابه، أتى الأستاذ بإناء فارغ ووضع فيه بعض كرات الغولف الصغيرة حتى بدا ممتلئا، ثم سألهم: هل الإناء ممتلئ حتى آخره أم لا؟ فأجمع كل الطلاب على أنه ممتلئ.
وضع الأستاذ بعض الحصى الصغير في الإناء، فاحتوى الإناء ذلك الحصى الذي ملأ الفراغات التي كانت بين كرات الغولف، وأعاد الأستاذ السؤال على طلابه: هل الإناء ممتلئ حتى آخره أم لا؟ فأجمع الطلاب من جديد على أنه ممتلئ.
أضاف الأستاذ كمية من الرمل إلى الإناء، فاحتوى الإناء الرمل الذي ملأ الفراغات التي بين الحصى وكرات الغولف، وبدا أن الإناء قد امتلأ حتى آخره هذه المرة، فأعاد الأستاذ طرح السؤال على طلابه إن كان الإناء ممتلئا حتى آخره أم لا، فأجمع الطلاب واثقين من إجابتهم هذه المرة على أنه ممتلئ تماما.
أحضر الأستاذ زجاجة ماء وبدأ يسكبها داخل الإناء، فاحتوى الإناء الماء الذي أخذ يملأ الفراغات الصغيرة للرمل. وعندما بدت الدهشة على وجوه الطلاب بدأ الأستاذ الجامعي يخبرهم عن الحكمة من هذه التجربة قائلا:
الإناء هو حياتنا، وكرات الغولف هي الأمور المهمة في حياتنا، أما الرمال فهي الأمور غير المهمة. عندما نبدأ ترتيب حياتنا بوضع الأمور المهمة فيها أولا، وهي الكرات، نستطيع أن نستوعب بعض الأمور الأقل أهمية. لكننا عندما نبدأ ترتيب حياتنا بوضع الأمور غير المهمة أولا، وهي الرمال، فإننا لا نجد مكانا للأمور المهمة بعد ذلك.
الأمور غير المهمة في حياتنا كثيرة، وهي تبدو لنا غالبا بسيطة، نفعلها في كثير من الأحيان دون اكتراث، ولا نعيرها اهتماما، لكنها تصبح مصدر إزعاج لنا، تزاحمنا في حياتنا، ولا تتيح مكانا للأمور المهمة، وبهذا تطغى حبات الرمل على كرات الغولف، فنجد أنفسنا غير قادرين على تنظيم أوقاتنا بالطريقة التي تتيح لنا إنجاز الأمور المهمة في حياتنا، في حين تزدحم هذه الأوقات بالأمور غير المهمة، إلى درجة تشعرنا أن الزمام أفلت من أيدينا، وأن حياتنا أصبحت تقترب من النهايات المحتومة من دون أن نحقق الآمال التي كانت تراودنا عندما كنا صغارا، وتلك التي تطورت بعد أن بلغنا مرحلة الشباب وتبلورت بشكل عملي أكثر، وتلك التي نضجت ونحن نجتاز مرحلة الشباب إلى مرحلة الرشد، وتلك التي أخذت شكلها النهائي ونحن نقترب من مرحلة الهرم.
مراحل نحسبها ونحن صغار طويلة، ونتمنى لو أننا نستطيع حرق بعض المراحل لنصل إلى تلك التي تليها، لكننا بمرور الوقت ندرك أن عملية الحرق هذه فعلٌ أخرق ما كان لنا أن نقدم عليه، لكن الوقت يكون قد تأخر على إيقاف عجلة الزمن أو الحد من سرعتها، ناهيك عن القدرة على إعادتها إلى الوراء قليلاً، كي يتسنى لنا الاستمتاع باللحظة التي نعيشها، وإعادة ملئ الإناء بكرات الغولف بدلا من الرمال التي أفرغناها في آنيتنا.
تجربة ملء الإناء هذه واضح أن الغرض منها هو دق جرس الإنذار لأولئك الذين ما زالت أمامهم فسحة من الزمن قبل أن تمتلئ آنيتهم بالرمل ولا يبقى فيها فراغ لكرة غولف واحدة، هم أحوج ما يكونون إليها كلما تقدم بهم العمر وأصبحت الفرص أٌكثر ضيقاً، وغدا الوقت أقل سعةً، وقطار الحياة يمضي بسرعة لا تتيح لنا أن ننزل في محطة من محطاته لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق.
لا أعرف إذا كان اختيار كرات الغولف في هذه القصة من باب الصدفة، أو أنّه كان مقصوداً، ذلك أنّ لعبة الغولف تحتاج إلى الكثير من الصبر، ولاعبها يجب أن يتمتع بالكثير من اللياقة، لأن ممارستها تتطلب المشي في الملعب الذي يصل طوله في بعض الأحيان إلى سبع كيلومترات، مما يساعد على صحة القلب، وهو ما يحتاجه الإنسان كي يصل إلى بر الأمان بأكبر قدر من المكاسب وأقل قدر من الخسائر.
نحن جميعا مدعوون إلى تأمل نظرية كرات الغولف هذه، ومعرفة الحكمة منها، طالما كانت لدينا الرغبة في ملئ آنيتنا بالكرات، وترك مساحة أقل للرمال، لأن الكرات وحدها لا تستطيع سد كل الفراغات التي في الآنية.