بقلم: ادوارد ثابت
الجزء الثالث والأخير
قابلها بالقطار المتجه للإسكندرية وتحدثا وتعارفا وأنجذب إليها فدعته إلى بيتها وتنزها معاً فأحس بعد فترة باشتياقه إليها ثم بحب يسيطر عليه فأخذ يكتب الشعر عنها ويدونه في دفتر صغير كانت تحتفظ به فتستمتع بقراءته فتنظر إليه بما يغريه وأخذته إلى قريب لها قالت أن بينهما علاقة مالية أما أختها التي عرفته بها عندما ذهب إلى بيتها فكانت تتجسس عليهما لتسمع ماذا يقولان وتراقبهما عندما يخرجان معاً وذهب معها يوماً لتشتري حبوباً للعصافير وعندما أستفسر عنها قالت له أن لها صديقة تركت بيتها لفترة وأحثتها على أن تذهب إلى بيتها لتطعمها ولكنها تغيرت وتغير سلوكها ولكنها تغيرت وتغير سلوكها وبدا عليها وكأنما هي في صراع لا تستطيع التنصل منه.
أقبل اليوم الأول ، وكان معهما بالبيت ، فإذا هي قد اتجهت إلى حجرتها ، وأغلقت الباب ، وبعد دقائق خرجت وقد غيرت ملا بسها ، ووضعت المساحيق على وجهها ، فينظر إليها متسائلاً فتستأذنه في أن تذهب إلى عملها ، وتطلب أن ينتظرها مع أختها ، فلن تتأخر كثيراً ، فما أن تخرج ويغلق الباب ، حتى ينتصب في مكانه لينصرف ، فتحاول الفتاة أن تمنعه ، فيبعدها عنه في رفق ولكنها تتصدره ، وتلصق ظهرها بالباب ، فتدفعه برفق وهي تتفكه في دعابة ومزاح ، تحثه بهما على أن ينتظر ، فيعرف في ذلك الحين خشيتها من أن ينزل خلفها ، ويرى ماذا ستفعل ، وعندما ينحرف عنها لتتركه ، تقول له ، وكأنما قد اضمرت شيئاً ما .
– أنتظر أرغب في أتحدث معك في أمر مهم . ويسألها في سرعة وضيق
- ما هو؟
فتلتفت إلى حجرة بالبيت بها أختها المخطوبة – لن ينفع هنا حتى لا تسمعنا - أين أذن ؟
- إلي أي مكان يمكننا أن نتحدث فيه
ولم يمتنع ، فقد أضمر شيئاً سيفعله ، لا يهمه فيه لو نزل في ذلك الوقت أو بعده ، ولم يمتنع حتى يسمع منها ماذا ستحدثه به . وينزلان معاً فتقول له - فلنذهب إلى شاطئ النيل حتى يتاح لي أن أفصح لك عما لابد منه . ويأخذها إلى هناك ، فيوقف سيارته على الطريق، فتنزل منها وتتجه إلى سور الشاطئ الحديدي ، فما أن تدنو منه حتى تلتفت إليه، فيتبعها في خطى بطيئة حتى يضحي إلى جانبها، وينظر نحوها ويقول لها في هدوء – تحدثي وكانت الشمس قد أوشكت على الغروب ، فينحني قليلاً ويسند ذراعيه على اطار السور ، وتفعل مثله فإذا الاثنان في انحنائهما يتطلعان أمامهما إلى صفحة النيل، وقد انعكست عليها ظلال المباني العامة على الضفة المواجهة لهما . وتنتظر فيحثها ثانية على الحديث .
– تحدثي وتتلعثم قليلاً ثم تقول له في هدوء سأحدثك بصراحة - تفضلي وتتنهد ، ثم تشتد وكأنما تستمد منها الجرأة فيما ستقول فتسأله : أتحبه؟
- من؟
- هي
- لماذا تسألين ؟
- لا أعرف
- وماذا يهمك في أن تعرفي
- فتلتفت إلى وجهه وتقول
- وهل تهمك مصلحتي ؟
- نعم
- أذن أوضحي لي
- هي لا تصلح لك !!
وينظر إلى وجهها فيسألها في تعجب : لماذا؟! ثم يتطلع امامه فتنظر ثانية نحو صفحة النيل ، وتتعثر قليلاً ثم تقول : لأنها متزوجة فيلتفت نحوها ويرنو إلى عينيها ويسألها في دهشة : متزوجة ؟! فتنظر إلى عينيه وتقول في سرعة كأنما لم تملك مفراً عن الإفصاح : نعم ، وهي منفصلة عن زوجها وتعيش معنا بالبيت حتى تنتهي من قضية الطلاق التي رفعتها ضده . ويبتسم في سخرية ، ويصمت ليعطي لها الوقت في أن تسهب في حديثها فتقول له : لقد أحضرتك إلى البيت حتى تتعرف علىَّ أنا ، ولكنها لم تعطني الفرصة ، وقد أنبتها على ذلك ، بل وزجرتها عندما لاحظت تصرفها معك ، وغوايتها لك عندما تحدثها فتتثنى في اغراء فقالت لي : لقد أعطيتك الفرصة لتتعرفي عليه ، ولم تستطيعي أن تقتنصيها فقلت لها إذن فلماذا ذهبت معه إلى القناطر الخيرية ، وأمضيتما النهار معاً . فقالت : لقد كنت قد عرفته عليك عندما حضر إلى البيت ، ولم يرَ فيك ما يعجبه أو يشده إليك ، فلعله للوهلة الأولى كان سيتركنا ، ولا يأتي ثانية ، ولهذا رغبت في أوطد العلاقة بينه وبيننا قلت لها في معارضة : توطدين العلاقة بينه وبيننا ، ام بينه وبينك ، قالت : ماذا تقصدين ، وماذا كنت سأفعل ؟ قلت لها في تهكم : لم تفعلِ شيئاً ، تستمتعين وتبدين له سعادتك عندما يريك ما يكتبه لك من الشعر ، فتقرئينه في تلهف وعذوبة وأنت تنظرين إليه نظرة المشتاقة إلى شئ تضمرينه ، بل وتتطلعين إلى جسمه وبك رغبة تخفينها ، فتهربت من حديثي هذا وما ألمح لها وكأنما لم تسمعه وقالت في التفاف : وهل كنت ازحره أو كنت أذمه على ما يكتب ، كنت أمتدحه كما يمتدح أي إنسان شعراً يطلع عليه ، قلت لها في حذق ليس الأمر يرتبط بالشعر وبهجتك به ولهفتك إلى قراءته . قالت : ليس هناك غير ذلك ، لقد أحضرته إلى البيت ليتعرف عليك وتتعرفين عليه ، فلم أتمالك نفسي من مواربتها فقلت لها في غضب صحت في وجهها . أعرف ذلك ، ولكن عندما توطدت علاقتكما طمعت فيه أنت فرغبت فيه كعاشق يحقق ذلك رغبتك التي تتوقين إليها ، والتي أعرفها عنك ، ولاترغبين في شئ غيرها ولكنك خجلت مني .. فصفعتني على وجهي . ويسمع منها ما قالت في صمت يفكر فيه ، فإذا هي تندفع لا تسعى منه إلا في أن تفصح له عما تشعر به وترغب فيه فتقول له فيما يشبه الغيظ : أنت لاتدرك من الذي يحبك . ويلتفت إليها فتستمر في جرأة كأنما لا ترى منها مفراً : أنا .. ثم تضعف لهجتها .. دائماً أشعر بالسعادة كلما أتيت إلى البيت ، أنا أحبك . وكل يوم يزداد حبي واشتياقي . ويغمض عينيه ، فينتهز ويهز رأسه ، فيحرك ذراعه نحوها ، ويربت على يدها في رفق فتمسك يده وكأنما تعتصرها ، فيجذب ذراعه إليه في هدوء ، ويحثها على الانصراف ، فيتجه إلي سيارته وهي تحاول أن تلتصق به فيستقل السيارة تجلس بها إلى جانبه من غير أن يتحدث ومن غير أن تتحدث . ويأخذها إلى البيت ، فما أن تدنو من الباب حتى ينطلق بسيارته يسعى إلى ما أضمره بعد أن أستأذنته في أن تذهب إلى عملها ،وأن يظل مع أختها ينتظرها . ولكنه لم ينتظر فيتجه إلى شركة السياحة التي تعمل بها ويسأل عنها امرأة تجلس خلف منضدة عريضة فتقول له في رقة : لا لم تحضر . فهي اليوم في أجازة . في ذلك اليوم ، بدأ يشك فيها ، وأخذ يفكر فيما كان بينهما ، منذ أن قابلها بالقطار ، فبدا عليها الأرتياح إليه ، وبعد أن ذهب إلى بيتها ، فتوطدت علاقتهما وأحس برغبتها في رؤيته دائماً ، وأخذ يتساءل : عن السعادة التي كانت تلوح عليها وهي معه بالقناطر الخيرية ، أتراها غمرتها فحرمت نفسها منها ، أو تغاضت عنها مرغمة ، حتى لا تغضب أختها التي أحضرته إلى البيت حتى يتعرف عليها ، وعن رغبتها في أن يظل إلى جانبها لتشعر بارتباطها بإنسان مخلص قلما تراه في الناس ، فأثارت فيه نزعة العطاء ، فصار يحقق لها كل ما تحتاج إليه ، أتراها حرمت نفسها ضد العطاء مثلما حرمت نفسها من السعادة خوفاً من أختها . وأخذ يتخيل أبتهاجاً عندما تقرأ قصيرة من قصائده التي يكتبها عنها ولها ، فتبتسم إليه وهي تتصفحها ، وتنظر إليه في حنو وفي كل سطر تتطلع إليه ، أترى كانت تمتدحه فقط لتسترضيه ، أم كان يمسها ذلك الغرور الذي تشعر به المرأة ، عندما ترى نفسها الموحية للشاعر الذي ينظم لها قصائد الحب والغزل ، وهل احتفاظها بدفتر الشعر هو تعويض لها عما تشعر به من أسى ، وكأنما ما به يخففه عنها ، وإلا لماذا تمتنع عن أن تعطيه له وتنظر إليه في تلك الابتسامة ، وذلك الحنو ، وكأنما يقول له أن يترك لها ما يرضيها ويمتعها ، ام تراها كانت تمس قلبها حقاً تلك القصائد ، فتصبو إلى أن تبوح له عما بقلبها من أحساس بالحب يضارع إحساسه ولكنها امتنعت مراعاة لأختها . بل لماذا قالت له تلك الجملة التي لم ينسها قط : أن كل حب لا بد وأن يكون له صدى ، فهل كانت تقول فقط جملة بليغة عامة بلا وعي أو شعور لتشابه بها بلاغة شعره فتصنعتها وتكلفتها ، ام تفصح لها بها أن حبه لها في قلبها مثله ، فثار في نفسها صراع بين رغبتها في الإفصاح عنه صراحة وبين معارضة أختها ، فلم تستطع إلا أن تفصح عنه هكذا ، كحل توفيقي أو تلفيقي كما يقول العالم النفسي (فرويد). ولكنه ينحي فجأة هذا التساؤل ، عندما يفكر في النقاش الذي حكت له أختها عنه عندما كانا معاً على شاطئ النيل ، والذي هاجمتها فيه فقالت أنها غاضبة : لقد رغبت فيه كعاشق يحقق لك رغبتك التي تتوقين إليها والتي لا ترغبين في شئ غيرها ، ولكنك خجلت مني ، فصفعتها على وجهها وإذا هو في تلك اللحظة التي أتي باله فيها ما قالت لها أختها يتخيل جسمها ، هو بض فوار مستنفر صادٍ عطش ، يلوح عليه كأنما هو حار متأجج شره جائع إلى من يشبعه، وكأنما هي به تتوق إلى حب مستنفر صادِ شهي جامح ، يحقق لها ما تصبو إليه ، فيتساءل في عمق : أتراها حقاً كانت تشعر نحوه بهذه الرغبة التي تحرقها وتؤرقها ، فمنها ذلك الصراع بين الرغبة ونقيضها كما يقول فرويد ، فامتنعت عنها مرغمة صادية ، وركزت هذا الصراع في حبها لشعره واشتياقها إلى قراءته وكأنما هو يحقق لها هذه الرغبة التي لم تقدر أن تفصح له عنها خجلاً من أختها ، هذا ما أخذ يفكر فيه ، بعد أن ذهب إلى الشركة التي تعمل بها ، وعرف أن ذلك اليوم هو أجازة لها لا تعمل فيه ، ولكنه يتغاضى في هذا الوقت عنه ، إلا ذلك الشك الذي يبرره سلوكها الغامض ، وتصرفها الخفي . وتمر فترة قليلة لم يذهب فيها إلى بيته ، ولكنه يرغب في أن يأخذ منها دفتر الشعر الذي لها فيه ما يشعر به نحوها . ويظل لا يعرف ، هل يأخذه منها ويتركها ولا يذهب إليها ثانية حتى يهدئ من نفسه من تلك الصراع والشك ، ام هو لا يزال يهددها فقط حتى تتغير . ويذهب إلى البيت ، ويستأذنها وقد لاح عليه التوتر في أن تعطيه الدفتر ، وتنظر إليهما أختها في ترقب ، ولكنها تمتنع وهي تنظر إليه في ذلك الدلال الذي يضنيه ، وبتلك الابتسامة المغرية القهارة التي لا تزال تؤثر فيه كما لم تؤثر فيه ابتسامة من قبل فتقول له في حنو أن به بعض القصائد الرقيقة ، ترغب في أن تقرأها مرة ثانية . ويقبل اليوم الثاني ، الذي يشبه ما فعلته في اليوم الأول ، ويختلف في نتيجته . تزينت وغيرت ملابسها واستأذنته في أن تذهب إلى عملها، وأن يظل مع أختها، وقالت له في تدلل أن ينتظرها فلن تتأخر كثيراً فما أن تخرج وتنطق الباب . حتى ينتصب من مقعده لينصرف ، فتمنعه أختها ، وكان منعها هذه المدة في قوة ، فقد تصدرت الباب ، فينزوي عنها ، ولكنها تصده بذراعيها في بأس لتنأى عنه وتقول له أن ينتظر ، فيضغط بكفه على كتفها في شئ من القوة ويدفعها عنه في سهولة فإذا هي تمسك يده وتشدها إليها فيتنصل منها . ويفتح الباب ، وينزل جرياً على سلالم البيت ، فلم يستقل سيارته .، وإنما يجري بالشارع نحو الطريق العمودية عليه ، فما ان ينحرف إليها حتى يراها .. تدخل بيت الصديقة التي تركت لها شقتها لتطعم عصافيرها فيتساءل في دهشة ، ويشك في نفس الوقت ، هل ستذهب إلى عملها ام ستطعم العصافير ؟! ويتجه إلي سيارته حتى يأتي بها قريباً من البيت ، ويظل بها ليرى ويعرف ماذا ستفعل حينذاك .فيخطو قليلاً نحوها ، ولكنه يغير رأيه ، ويلتفت فإذا مقهى صغير أمام البيت يمكنه أن يبصر مدخله إذا جلس به . وأن يراها إذا خرجت ، فيدنو منه ويجلس على مقعد به ، ويحتسي شرابا لم يتذوق طعمه ويظل هكذا ما يقرب من الساعة ، لا ينأى بصره عن مدخل البيت ، وقد تملكه القلق والشك ، ولكنه بعدها ينظر ، فيرى شخصاً يخرج منه ، فيدقق في ملامحه وهيأته ، فإذا هو ذلك القريب الذي أخذته إليه بشارع طوسون يسير مبتعداً وقد أبتل شعر رأسه ، فما أن تمر دقائق حتى تخرج هي وقد بدا تزينها حديثا تغيرت به مساحيق وجهها كما لو كانت للوقت قد صبغتها . وتتلفت حولها وكأنما تطمئن على نفسها . فتلمحه ، فيرنو إلى عينيها في دقة ، فتنأى ببصرها سريعاً ، وتنظر إلى لاشئ ، فتسير في سرعة إلى طريق غير الطريق التي تذهب منه إلى بيتها . ويتجه إلى سيارته في تعثر ، فيستقلها ويحركها قليلاً عن البيت ، ينظر منها إلى مدخله في ترقب ، فما أن يمر وقت ليس بالكثير حتى يراها تقبل في خطى بطيئة فتدخل البيت وقد بدا عليها التوتر والارتباك . وينتظر دقائق ، ينزل بعدها من سيارته ، ويطرق الباب فتفتح له أختها فيؤمى لها وكأنما يحييها ويتلفت فيراها بحجرتها تنظم ملابسها ، وتتطلع إليهما أختها في صمت . وتطل هي تعبث بملابسها ثم تلتفت إليه في ترقب فينظر إلى عينيها ، فتغض بصرها ، ويحمر وجهها وكانت هي المرة الأولى التي يرى فيها احمرار وجهها . ويستأذنها في هدوء في أن تعطيه دفتر الشعر ، وتنظر إليها أختها فتنتظر ماذا ستفعل ، ولكنها لم تمتنع كما امتنعت من قبل ، ولم تبتسم له تلك الابتسامة الحانية التي كانت تبديها إليه حينذاك فتفتح صوان الملابس وقد غمره الأسى والخجل فتمد ذراعها بالدفتر إليه وتقربه له من غير أن تقول شيئاً ويأخذ الدفتر .. ويفر هارباً منها ومن أختها .