بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
مما لا شك فيه أن لبنان بلد جميل، فيه الكثير من المناظر الخلابة، مع تنوع كبير في طبيعة البلاد بين سهول وجبال وأودية، وتوزيع مناسب للفصول بحيث كل فصل من الفصول الأربعة يتميز بالمناخ والخضار والفاكهة الخاصة به، وكل هذه العوامل تجعل من لبنان بلدا جذابا يقصده السائحون من مختلف بقاع الدنيا. ولكن هذا البلد الجميل يعاني من مشكلات وصعوبات كبرى في تركيبته السياسية والإجتماعية، ما يجعله عرضة لأحداث وحروب متكررة تلغي الى حد ما الإيجابيات التي منحته إياها الطبيعة.
فالمشكلات السياسية معروفة مثل التوزيع الطائفي الذي يجعل تعيين الموظفين في الإدارات العامة يخضع لتوازنات غالباً ما تلغي الكفاءة على حساب الإنتماء الطائفي، أو مثل الإنتخابات التشريعية التي تحصل مرة كل أربع سنوات بحيث يقوم الناخبون باختيار نفس النواب أو أولادهم رغم كل الإنتقادات والتذمر الذي يشكو منه الناخبون باستمرار، أو أيضاً مشكلة الفساد المستشري على معظم مستويات الحكم والذي لا يبدو أن هنالك إرادة جدية لمعالجته إلا بالكلام. كل ذلك دون التحدث عن مسألة السلاح خارج إطار الدولة وهي مسألة لها أيضا خلفية طائفية.
هذه المشكلات الكبرى والتي تحول دون أن يصبح لبنان دولة حديثة كان من الممكن معالجتها وحلها لو كان هنالك إرادة لدى الشعب اللبناني للخروج من هذه الأوضاع السلبية. ولكن يبدو أن العقلية المسيطرة على الشعب لا تسمح بحل تلك المشكلات وتخطيها لبناء دولة حديثة. وقد ترسخت لدي هذه الفكرة بعد زيارتي الأخيرة الى لبنان حيث أقمت حوالى ستة أسابيع.
أود الإشارة هنا أنني أزور لبنان مرتين أو ثلاث مرات في السنة، وبعد كل زيارة، أعود بشعور أن البلد يتراجع بدل أن يتقدم، وأن المشكلات المذكورة أعلاه تزداد سوءاً في المجتمع اللبناني بدل أن يتم معالجتها أو أن يحصل تقدم ولو محدود باتجاه حلها. وبعد زيارتي الأخيرة، أصبح لدي شبه قناعة باستحالة حصول أي تقدم ملموس في هذا المجال.
ما جعلني أقترب من فقدان الأمل بأي تحسن في الأوضاع في الداخل اللبناني في المستقبل المنظور هو ما شاهدته في طريقة قيادة السيارة من قبل معظم اللبنانيين، وفي ذلك دليل واضح على أنانية وفردية مطلقة بحيث لا يفكر سائق السيارة إلا بنفسه وبمصلحته الشخصية، معتبراً نفسه الأهم إن لم يكن الوحيد الذي يملك الأولوية في كل شيء، وذلك ينطبق بدون أدنى شك على جميع أوجه الحياة، بما فيها الشؤون السياسية ومسألة بناء دولة حديثة. .
نعرف جيدا أن قيادة السيارة في لبنان كان دائماً يتميز بكثير من الصعوبات وبصورة خاصة لجهة الأنانية والرغبة بأن يسبق السائق جميع الآخرين، ولكن مع زيادة عدد السكان والسيارات في الشوارع، كنا نأمل أن يتم وضع وتطبيق بعض القوانين الخاصة بالسير من أجل معالجة هذه المشكلة المتفاقمة، ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل، بل ازدادت الفوضى في الشوارع لدرجة أن المسافة التي كانت تستغرق نصف ساعة منذ سنتين او ثلاث سنوات، أصبحت الآن تستغرق ساعة ونصف في أفضل الأحوال.
فيما يلي بعض الأمثلة عن تصرفات اللبنانيين في طريقة القيادة وفيها ما يدل على أنانية في الشخصية يصعب معها بناء دولة حديثة:
- اللبناني الذي يقود السيارة يعتبر أن الطريق ملكه وله الأفضلية أينما وُجِد ويمكنه أن يسير حيثما يشاء بصرف النظر عن قانون السير أو وجود سائقين غيره في الطريق.
- ينظر سائق السيارة اللبناني الى سائر السائقين على أنهم أعداء له وغالبا ما نسمع منه كلمات نابية تجاه الإخرين دون أن يعرفهم أو يعرف عنهم أي شيء، إذ يعتبر نفسه الوحيد الذي له الحق في الوجود على الطريق دون سواه من السائقين.
- من عنده سيارة فخمة ينظر الى الآخرين نظرة فوقية وكأنه يقول لهم: “سيارتي أفضل من سيارتكم وانا بالتالي افضل منكم ولي حق المرور قبلكم”. كم مرة سمعنا هذا السائق أو ذاك يتمتم تجاه سائق آخر يقود سيارة قديمة: “روح كبها”!
- عندما يصل السائق الى مفترق طرق فيه ازدحام ولا يستطيع اجتياز المفترق، فهو لا يتردد في التوقف في وسط الطريق، حائلاً دون تمكين السيارات االقادمة من الإتجاه الآخر من العبور، معتبراً انه إذا كان لا يستطيع ان يمر فمن باب أولى له عدم السماح للآخرين بالعبور، وفي ذلك ما يؤخر الجميع بمن فيهم هو نفسه، ولكن هذه هي أحدى أوجه الأنانية المتجسدة في قيادة السيارة في لبنان.
- معظم السائقين في لبنان لا يحترمون قانون السير وخاصة في ما يتعلق بالإشارات الضوئية، وغالباً ما نسمع سائقين يطلقون من الوراء بوق السيارة إذا كنا واقفين بانتظار الضوء الأخضر أمام إشارات السير الضوئية، وكأن الإشارة الحمراء لا تعنيهم إطلاقا.
- لا بد أيضا من الإشارة الى أن شرطة السير قلما تعاقب السائقين المخالفين حتى لو حصل ذلك أمام أعين أفراد الشرطة، وذلك خشية أن يكون السائق يحمل سلاحا يمكن استعماله ضد الشرطي، وقد حصل ذلك مرات عديدة. هذا مع العلم أن الشرطي أصبح راتبه ضئيلاً بسبب الأزمة المالية، وهو بذلك يفضل الإبتعاد عن أية مشاكل مع السائقين آملاً بالعودة سالماً الى عائلته، خاصة في ظل غياب سلطة حكومية تستطيع حمايته والدفاع عن حقوقه في حال تعرضه لاعتداء من قبل أحد السائقين.
- بالإضافة الى كل ذلك لا بد من الإشارة الى الإزدياد الرهيب في عدد الدراجات النارية التي لا تحترم أي قانون للسير وغالبا ما نرى دراجات نارية في الإتجاه المعاكس دون حسيب أو رقيب، يسعى من يقودها الى تجنب ازدحام السير، غير آبه بالقوانين والأنظمة المتعلقة بأصول قيادة الدراجة النارية أو باحتمال التسبب بحوادث سير قد تكون قاتلة. كذلك غالباً ما نرى رجلاً يقود الدراجة النارية مع زوجته وولدين أو ثلاثة وهو يحشر دراجته بين السيارات، دون خوذة واقية على رأسه أو رأس أي فرد من أفراد عائلته، وفي ذلك مخاطرة كبرى بحياتهم جميعاً.
هذه بعض الحالات التي نراها في شوارع لبنان وهي كافية لإعطائنا فكرة واضحة عن العقلية التي تشكل صعوبة كبرى وعائقاً ضخماً في طريق بناء دولة حديثة في لبنان. فالمسألة لا تتعلق فقط بقيادة السيارة، بل هي تعود الى العقلية اللبنانية التي تظهر بصورة خاصة أثناء قيادة السيارة، إذ أن الأنانية التي نراها لدى اللبناني عند قيادته سيارته تدل بشكل واضح على أن هذه العقلية لا يمكن أن تبني دولة حديثة إذ أن الذي لا يحترم قانون السير لا يمكنه أن يحترم قانون الضرائب مثلا، أو أي قانون آخر.
وبالإضافة الى الأنانية التي تظهر عند اللبناني الذي يقود سيارته، نرى كيف أن هذه الأنانية تظهر أيضاً في مطار بيروت عندما يود اللبناني السفر. فهو يزاحم سائر المسافرين للوصول الى شباك استلام بطاقة الصعود الى الطائرة دون اي احترام لسائر المسافرين الذين وصلوا قبله، كذلك يزاحم الآخرين للصعود الى الطائرة، دون أي التفات الى كبار السن أو النساء أو العائلات التي تصطحب أطفالاً، وكل ذلك ناتج عن أنانية واضحة ملفتة الى أقصى درجة.
هذا مع العلم أن هذا اللبناني نفسه، عندما تطأ قدماه دولة أجنبية، نراه يقف في الصف دون أية مزاحمة لسواه، وكأنه شخص آخر غير ذاك الذي كان قبل ساعات قليلة في المطار اللبناني.
هذه التصرفات الأنانية من قبل معظم اللبنانيين تحملني على الإقتناع بصعوبة تأسيس دولة حديثة في لبنان، يحترم فيها المواطنون القانون دون تردد مثلما يحصل في معظم دول العالم، إذ أن احترام القانون يستوجب بعض التضحية، وقبول الآخر كشريك لنا، وأن لا نعتبر أنفسنا أهم من سوانا وأن القانون يطبق فقط على الآخرين وليس علينا نحن. فبناء دولة حديثة لا يمكن أن يتم إلا بمشاركة جميع المواطنين، وأنا لا أتحدث هنا عن دولة ديكتاتورية يفرض فيها الحاكم القوانين بالقوة، بل أتحدث عن دولة ديمقراطية، يقتنع مواطنوها بمساواتهم أمام القانون، بعيداً عن الأنانية والفردية التي تميز المجتمع اللبناني الى حد بعيد.
هل سيصل لبنان الى بناء مثل هذه الدولة في المستقبل المنظور؟ أنا شخصياً أشك بإمكانية حصول ذلك للأسباب التي ذكرتها أعلاه والمتعلقة بنفسية وعقلية معظم اللبنانيين، وكم أرجو أن أكون مخطئاً في تصوري وتشخيصي لهذا الواقع المرير والمؤسف.













