بقلم: ناهدة العاصي
لقد مضى شهر على الحراك الشعبي في لبنان والذي يشكّل بحجمه جزءاً من الوطن لا يُستهان به، ويعتبر تطلّعات الجيل الجديد الذي فقد الثقة بالسلطة القائمة ركيزته الأساسيّة. لقد صمّم الحراك على إسقاط الوزارة الحاليّة واستبدالها بحكومةٍ بصلاحيّات تشريعيّة إستثنائيّة، وزراؤها متخصّصون وذوو خبرة في كافّة المجالات. وبوعيٍ غير مسبوق وببُعدٍ عن الطائقيّة والمذهبية التي أرادت السلطة الفاسدة ترسيخها دعماً لسياسة «فرّق تسُد»، يقوم الحراك بتحليل الوضع القائم بالعمق والجدّية والإحترافيّة المطلوبة من أجل صياغة مطالبهم وطرح بعض الحلول العمليّة التصحيحيّة للوضع الراهن والخطير، وبالتالي إثبات حقيقة أنه لدى الشعب رؤيا واضحة تتبلور حول كيفيّة تشكيل البديل لسلطة الفساد وتحمّل المسؤولية تجاه الوطن وأبنائه.
صرخة وجع كلّ اللبنانيين انبثقت من قلب الحراك، صرخة رفضٍ لسياسة القمع والتخويف التي تمارسها الدولة ومؤسّساتها بحق الشباب المثقّف الذي يرى الثورة امتيازاً له. في صرخته عتبٌ كبير على الأهل والكبار لأنهم تحمّلوا القمع مدة ثلاثين عامٍ ولم يقفوا وقفة اليوم وسكتوا عن الفساد بشتّى أشكاله إلى أن استشرى. في صرخته تحدٍّ بأن الأرض التي أنجبت جبران خليل جبران وغيره ستشهد ولادة الآلاف من جبران الذين ما إن ينالوا شهاداتهم حتى يرحلوا إلى بلاد الإغتراب إن لم يستطيعوا إنزال السلطة الجاهلة من عليائها، السلطة التي لا تعرف أن في الحراك أناس ضليعون بكل الإختصاصات ولا تفهم أن حجّة حماية الأديان أسلوب نحج مع أجدادهم لكنّه لن ينجح معهم. فبالنسبة لهم، ثورة لبنان الآن ليست ثورة عقائد ولا ثورة أحزاب ولا ثورة طوائف. هي ثورة شاملة لأناسٍ مثقّفين شرفاء من كلّ هذه الإتجاهات يريدون إسقاط السلطة القائمة التي لا تصون أبسط حقوق الإنسان!
صرخة وجعٍ أخرى أتت من قِبل المعارضة من قلب المجلس النيابي لتدعم الحراك بالأسباب الموجِبة لقيامه. فالمعارضة وبرغم التحدّيات الجمّة التي تواجهها ترى الحراك محقّاً، رائداً في تفكيره، منظّماً في قيادته، منضوياً تحت قيادة وإشراف متخصصين وخبراء في كل المجالات، وبالتالي سيؤدي لقيام دولة المؤسسات. والسؤال أين كانت هذه المعارضة من قبل التي أعلنت في يوم وليلة عن نيتها عن مقاطعة الجلسة التشريعيّة (التي أبطلها الحراك الشعبي) يوم الثلاثاء الماضي ١٢ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٩ لعدّة أسبابٍ أهمّها:
ـ إدراج قانون العفو العام على جدول الجلسة، وهو فخّ والمقصود منه خلق شارع مؤيّد للقانون لأنه مستفيد منه وشارعٍ آخر يطالب بإصلاح النظام القائم ويدافع عن حقوق ومطالب الشعب ككلّ. وللحقيقة أنّ الدولة لا تريد إقرار القانون وإنّما ضرب مطالب الحراك الوطني المحقّة.
ـ قانون ضمان الشيخوخة هو فخٌّ آخر لعدم وجود أموال في خزينة الدوله لإقراره. وفي حال إقراره، سيكون بمثابة شيك بدون رصيد.
ـ عدم إعطاء الأولويّة لسبعةِ قوانين محِقّة من أصل ١٦ مُدرجة على جدول أعمال المجلس منذ حوالي العام، ومن بينها الدعوة لإستقلالية القضاء وشفافيّته.
ـ تأجيل بحث قانون الإثراء غير المشروع بعد إدخال تعديلات عليه وجعله قانوناً قابلاً للتطبيق بشكلٍ يؤدي إلى إعادة الأموال المنهوبة إذا كان القضاء مستقلاً.
ـ تطيير قانون رفع السرية المصرفية بعد أن تم تعديله وتقديمه للمجلس النيابي، ففي تطبيقه تلبية لحاجات الناس وتأكيد على ضرورة إستماع الطبقة الحاكمة لمطالب الشعب دون القيام بقمعه.
ـ عدم إلتزام رئيس الجمهورية بالدستور الذي أقسمَ أن يحميه والذي ينص قانونيّاً على قيام رئيس الجمهورية بالدعوة للإستشارات النيابية لتأليف حكومة يليها تكليف رئيس للوزارة وليس العكس. فما يحصل فعليّاً هو تشكيل حكومة بالتراضي فيما بين النواب وتقاسم واضح للحصص بدلاً من أن يتمّ نقاشها مع النواب أنفسهم ومن ثمّ التصويت عليها.
الحوار الصحفي مع الرئيس ميشال عون مساء يوم الثلاثاء ١٢ نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٩ لن يقدّم بل يؤخّر لأنه لم يأتِ بجديد. جاء ليؤكّد أنهّ لن يعطي أي وعدٍ للحراك الشعبي بتلبية مطالبهم، وليؤكّد عدم إمكانيّة أن تكون التشكيلة الحكومية تشكيلة تكنوقراط لأنها برأيه لا تستطيع إدارة سياسات الدولة، وليشترط نيل ثقة الشعب بكلامه وتراجعهم من الشارع ليتمكّن من السير في خطّته الإصلاحيّة الفاقدة للوضوح أساساً. يبدو أنه لا يرى أن أساس المشكلة هو السلطة الفاسدة وإلا لما قال «إن الشعب الذي لا يرى أحداً آدميّا في السلطة ما عليه إلا أن يهاجر» وأن استمرار الحراك يعني أن النكبة قادمة.
هذا الإستخفاف بالشعب اللبناني أحبط الشعب وأجّج الحراك من جديد فكان النزول إلى الشارع فوراً وإعلان الإضرابٍ العام. هذا الأمر فتح الباب أمام الذين يتصيّدون في الماء العكِر وأول عناوينه كان مقتل شخص في الشارع بدون أي خلفيّة سياسيّة أو سبب. لتلك للسلطة نقول، إن كنتم تعوّلون على عامل الوقت، ستنجحون بزيادة الضّرر الذي سببتموه أصلاً. وعوا جيّداً أن السلطة لا ولن تقوم على أطلال بلدنا الحبيب لبنان.