قصة قصيرة بقلم :سوسن شمعون
بقي طوال الظهيرة جالساً في ذلك المقهى العتيق ينتظر حبيبته , يرتشف القهوة على مهل وهو يمارس هوايته المفضلة بالرسم بقلم رصاص, بدأ الملل يتسلل إليه و هو ينظر إلى الساعة , هي من عادتها أن تتأخر فكل الفتيات هكذا , إنه الدلال . تناهى إلى سمعه كلام بعض الموجودين في تلك الصالة , لقد قصف الحي الذي تقطنه فتاته , رفض أي فكرةٍ سوداء حاولت اقتحام شوقه في انتظارها , كان يرتب في ذهنه كلمات جديدة لها غير التي تغزّل بها سابقاً , أراد مفاتحتها هذه المرة بموضوع الخطبة , لابد أنها ستفاجئ إذ إنه فقير الحال لكنه بنظرها فنانٌ مرهف ذو مكانة و يكفي حبه الصادق لها , استرجع تفاصيل اللقاءات السابقة عندما بدأ يرسم زهرة متفتحة , و ابتسم حين قالت له ذات مرة : سأنتظر أن تقيم معرضاً و سأشتري كل لوحاتك لكن أرسم دون أن تمل ولا تسمح للتعب أن ينال منك , أحبها أول مرة حين أثنت على فنه و أحبها أكثر عندما عرفها أكثر , تذكر صوراً تراءت له عنها و عن ضحكاتها و طريقة حديثها , هي طفلة و كم يحتاج لطفلةٍ تحتويه , في آخر لقاءٍ بينهما أسرّ لها أنه وحيد في حياته و يعيش عزلته بين رسوماته و عمله وبيتٍ يسوده الظلام و تحكمه الرتابة , أخبرها بكل جرأةٍ وثقة أنه وجد كنزه حين عرفها و أنه يريد أن يعيش عمره المشرق معها , فخجلت و أطرقت رأسها ولم تستطع أن تتكلم , لكنها أردفت بشيء من الأسى أنها تبادله نفس المشاعر و ربما هي محبة الأرواح لبعضها قبل أن تكون محبة قلوب و عيون , لكنها بمستوى اجتماعي مختلف و حسب رأي أهلها فمصيرها مقدر في مكانٍ آخر خارج هذا البلد و فوضى حروبه , لم ييأس هذا الشاب و طلب منها أن تتحلى بشجاعة العاشقين على مجابهة الصعاب إن أرادته فعلاً , و سيكون رجلاً بمعنى الكلمة حين يواجه أهلها بأمرهما . عاد ليرسم بيتاً ريفياً بسيطاً على ورقه الأبيض, و استيقظ من شروده فجأةً حين دق هاتفه النقال, امتعض قليلاً قبل أن يجيب لكن عندما رأى اسم المتصل أسرع بالرد قائلاً : نعم حبيبتي أنا أنتظرك منذ ساعتين أين أنتِ؟ لكن جاءه صوتٌ غريب طالباً منه التوجه إلى أحد المشافي لأن صاحبة الهاتف قد استشهدت و وجدوا أن رقمه كان آخر اتصال , تجمد الدم في عروقه لثوان , ولم يستطع استيعاب الكلام , بقي شارداً في تلك الرسمة الأخيرة في ذلك البيت الريفي الذي تخيله بيتاً لعائلة صغيرة و سعيدة , بقي منتظراً حبيبته ليخبرها أنها أعطت لحياته نكهة الحب المفتقد و هي التي فهمته دوناً عن باقي الناس , بقي سارحاً رافضاً حقيقة ما جرى , ساخطاً من هذا الاتصال, نظر إلى الزهرة إلى البيت بغصةٍ موجعة ناكراً هذا الفراق بين زهرتين و زوال حلمه الصغير الذي كان على الورق و بقي على الورق.