بقلم: سليم خليل
عندما نفكر بإجراء مقارنة بين الازدهار والحالة الاقتصادية الحالية التي توصلت إليها البشرية الآن وسنين ما قبل الحرب العالمية الأولى والثانية نجد أن الفضل بهذا التطور العظيم يعود إلى الولايات المتحدة.
أتذكر جيدا أنه قبل الحرب العالمية الثانية كانت البضائع من اليابان والصين خاضعة لرسوم جمركية أعلى من الرسوم الجمركية على البضائع الأوروبية وهذه سياسة اقتصادية استعمارية طبقت على دول مٌحتلة ومُستعمَرة؛ وكانت كافة الأنظمة المالية تخدم مصانع وشركات المستعمِر.
بعد الحرب العالمية الثانية عانت كافة دول العالم من أزمة اقتصادية حادة بما فيها الولايات المتحدة حيث توقفت مصانع إنتاج العتاد الحربي؛ فخرجت الولايات المتحدة بمشروع – مارشال – لإنعاش أوروبا ودخلت الشركات الأميركية بشراكة ومعاهدات تجارية مع الدول والمؤسسات الأوروبية واليابانية المسحوقة نتيجة الحرب؛ وعاشت الكرة الأرضية فترة ازدهار هائل وتطور اجتماعي عالمي تماشى مع استقلال دول أطلق عليها اسم العالم الثالث ؛ هذه الدول انطلقت بحرية في بناء اقتصادها وتأسيس شركات وإنشاء صناعات تلبي حاجات سكانها .
بلا شك؛ يتبع المعاهدات التجارية نفوذ سياسي ودفاعي وحربي ظهر جليا بعد الحرب العالمية الثانية عندما إنقسم العالم إلى معسكر غربي رأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، ومعسكر شيوعي اشتراكي شرقي بقيادة روسيا؛ وتنافس
الطرفان في النفوذ الاقتصادي والحربي على الساحة العالمية بمعاهدات وبمساعدات تجارية سياسية دفاعية هنا وهناك وترافقت المنافسة بحروب محلية في أفريقيا وآسيا استمرت أربعة عقود لغاية ظهور الرئيس الروسي-جورباتشوف -الذي أنهى الحرب الباردة بمعاهدات مع الغرب تخلَى الإتحاد السوفييتي بموجبها عن كافة الدول الدائرة في فلكه في أوروبا وآسيا في منتصف الثمانينات من القرن الماضي؛ وكانت فرصة ذهبية للنفوذ الأميركي فسارعت الولايات المتحدة لسد الفراغ بمساعدات ومعاهدات تجارية دفاعية وقواعد عسكرية مع اكثر الدول المتحررة من الإتحاد السوفييتي .
كانت تلك الفترة من أصعب المراحل الاقتصادية ! مع وقف المنافسة الاقتصادية والحربية انهارت الأسواق التجارية العالمية وأسواق الأسهم في أكتوبر ١٩٨٧ وبدأ مع الانهيار التفكير في مستقبل التجارة العالمية . كان الحل بالعولمة وفتح الأسواق التجارية للتبادل الحر بمعاهدات تجارية هنا وهناك ؛ كانت نتائجها المباشرة انتقال رؤوس الأموال إلى مواقع فيها ضمانات للربح وضمانات للإنتاج السريع ؛ فكان المستفيد الأكبر من فتح الأسواق هو الصين الشيوعية المتعطشة لفتح الأسواق وللاستثمارات الأجنبية.
بتاريخ ١-١١-١٩٩١ خرجت نساء الصين في كافة المدن الصينية في مسيرات حزن وبكاء لبلوغ عدد السكان مليار ومأتي مليون ولانعدام فرص العمل ! بمدة سنوات معدودة بعد العولمة وفتح الأسواق وانتقال الاستثمار إلى مصانعها ؛
ازدهرت الصين ومنذ ذلك التاريخ أصبح عمالها يعملون دواما كاملا وفي كثير من المصانع يعمل العمال ساعات إضافية؛ وذلك على حساب بطالة العمال في باقي الدول الصناعية حيث انتقلت صناعات بكاملها إلى الصين وإلى دول أخرى مثل المكسيك وبنجلاديش والهند إلخ إلخ .
منذ ذلك التاريخ سعت كافة الإدارات الأميركية لتغيير تلك المعاهدات لصالح اليد العاملة في بلادها ؛ وكانت العقبة أن الرأسمال الأميركي هو المستفيد ويجني الأرباح بعيدا عن النقابات والحد الأدنى المرتفع بالنسبة إلى باقي البلدان وعن شروط البيئة المكلفة.
السوق الأوروبية المشتركة واليورو
في تلك الفترة كانت السوق الأوروبية المشتركة قد قررت وضع – اليورو – في التداول عام 1990 في دول السوق محل كافة العملات الأوروبية الأخرى؛ لكن الوضع العالمي المتغيَّر بسرعة والمضاربات في أسعار العملات أجبر أوروبا على تأجيل التداول مدة عشر سنوات ؛ وهذا ما جرى بعد عشر سنوات عام – 2000 – أصبح اليورو المنافس الأول للدولار في الاقتصاد العالمي!
ميلاد – نافتا – السوق الحرة المشتركة لأميركا الشمالية – كندا والولايات المتحدة والمكسيك
بعد تحرر دول أوروبا الشرقية من الإتحاد السوفييتي تقدمت كافة تلك الدول بطلبات الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة وهذا يعني في النهاية ميلاد أكبر سوق تجاري في العالم وبعملة موحدة – اليورو – وهذا يعني أيضا منافسة أكبر وأهم سوق تجاري عالمي – الولايات المتحدة ـ . لمواجهة هذه التطورات هرعت الولايات المتحدة برئاسة جورج بوش -الأب – في مطلع التسعينات من القرن الماضي لوضع الأسس التجارية لسوق أميركا الشمالية – كندا والولايات المتحدة والمكسيك وذلك للحفاظ على أكبر سوق تجاري في العالم في شمال أميركا. لم تعارض كندا والمكسيك المعاهدة لأن المعاهدة لصالحهما وضمنا مشاركة أكبر سوق عالمي .
كان المستفيد الأكبر من المعاهدة هو المكسيك إذ أخذت أكثر المصانع في الولايات المتحدة تنتقل إلى المكسيك ؛ أو تفتح فروعا لها هناك للاستفادة من اليد العاملة الرخيصة مع ضمانات تصريف الإنتاج في الولايات المتحدة وكندا .
منذ توقيع تلك المعاهدة حتى الآن يخسر العمال في الولايات المتحدة وفي كندا أعمالهم لصالح اليد العاملة الرخيصة في المكسيك بالإضافة إلى انتشار خطوط الإنتاج الأوتوماتيكي واستعمال الروبوت.
في حملة انتخابات الرئاسة عام 2016 في الولايات المتحدة أثار موضوع بطالة العمال وإعادة تشغيل الأميركيين كافة المرشحين بوعود يصعب تحقيقها؛ ومنذ مشروع – مارشال- إنعاش أوروبا واليابان – في الخمسينات من القرن الماضي وتتشكى الإدارات الأميركية من اختلال الميزان التجاري لصالح اليابان وأوروبا دون إيجاد حلول جذرية ؛ واستمر خلل الميزان التجاري واتسع النفوذ الأميركي . مع العولمة دخلت الصين بقوة إنتاجية وجودة منتجات وأسعار منافسة يستفيد منها الرأسمال الأميركي ؛ وتبع ذلك معاهدة سوق أميركا الشمالية استفادت منها الشركات الأميركية والمكسيك على حساب اليد العاملة الأميركية والكندية.
كل تغيير في المعاهدات التجارية يتبعه نوع من تغيير في النفوذ السياسي؛ بعد العولمة استطاعت الصين الدخول إلى أسواق في مناطق كثيرة مهملة بمعاهدات ومشاريع صناعية تبعها نفوذ سياسي. تستعمل الصين عملتها المحلية – الياون – وتصدر بالدولار وهذا ما رفع إحتياطها من العملة الأجنبية إلى درجة تثير وتهز المقاييس التجارية بشكل خطير بالنسبة إلى القوى الاقتصادية التقليدية ويرفعها إلى مستوى القوى العظمى؛ كما بدأت الصين بفرض عملتها للتداول في المعاهدات التجارية الجديدة مع دول محتاجة تقبلت الشروط على حساب الدولار وهذه أخطر خطوة هجومية على النظام المالي العالمي وعلى البنك الدولي.
تدور الكرة الأرضية في دائرة مفرغة إقتصاديا وسياسيا تهزها أزمات اليد العاملة وأرباح رؤوس الأموال والخلل في الميازين التجارية ؛ والانسحاب من المعاهدات يفتح ثغرات تتسلل منها دول متعطشة للنفوذ السياسي! قيل إن أسباب الحروب اقتصادية أكثر من سياسية؛ والحروب المحلية الحالية وَصِفت بأنها حروب بالوكالة عن الدول العظمى التي لن تتحارب ولأنه لا رابح من تصادم قوى تملك أسلحة الدمار الشامل . كيف ستعالج الأزمة الاقتصادية الحالية ؟ هناك عودة إلى الرسوم الجمركية لحماية الصناعات المحلية وهذا ما يوصل إلى الانعزال ؟
أسئلة كثيرة أجوبتها غامضة!