بقلم: د. خالد التوزاني
في عام 2015، صدر لي كتاب، يحمل عنوان: “أدب العجيب في الثقافتين العربية والغربية”، وقد حظي بإقبال القراء عليه، نظراً لكون هذا الكتاب حسب عدد من النقاد، يقدم مقاربة تنظيرية وتأصيلية لموضوع العجيب من خلال تبني مصطلح “أدب العجيب” بديلا لما هو شائع من مصطلحات أخرى مجاورة مثل العجائبي والفانتاستيك والغرائبي.. ولم يكن اختياري لهذا المصطلح أي أدب العجيب، مجرداً من تحليل أو بعد تأصيلي، وإنما جاء نتيجة مقاربة علمية وشمولية للموضوع، تتجاوز الثقافة العربية والإسلامية إلى استنطاق الثقافة الغربية والأجنبية، من أجل الكشف عن مدلول الفانتاستيك وأصوله وتحولاته في هذه الثقافة وسياق هجرته نحو حقل التداول العربي، في سياق الحداثة والتجريب.
إن اختيارنا لمصطلح “أدب العجيب” نعتقد أنه أكثر دقة في التعبير عن نمط الإبداع القائم على توظيف العجيب والغريب والخراق، وهو الأنسب لتحليل النص العربي وخاصة التراثي. أما لفظ “الفانتاستيك” بوصفه جنسا أدبيا أو تقنية في الكتابة، فقد أنتجته ظروف تاريخية وقيم ثقافية غريبة عن واقع الإنسان العربي وخصوصياته، ولذلك يمكن تداول مصطلح “الفانتاستيك” من باب توسيع الرؤيا وتعزيز أفق القراءة والتأويل، وإلا فإن الأصل هو الرجوع إلى المعاجم العربية واللسان العربي والذي يحدّد لفظ “العجيب” أكثر دقة من غيره وفي الآن نفسه أكثر تناسباً مع النص العربي.
إنَّ أدب العجيب في الثقافة العربية، ليس جنساً أدبياً مستقلا، على غرار أجناس الأدب المعروفة مثل أدب الرحلة وأدب الترسل وأدب الخطابة.. وإنما يشمل “أدب العجيب” كل كتابة غير مألوفة، وهذا يعني أن ملامح هذا الأدب موجودة في مختلف حقول المعرفة والإبداع؛ ففي أدب الرحلة يوجد العجيب، وفي كتب السير والتاريخ وأدب المناقب والكرامات، وغيرها من مجالات انتعاش العجيب في الثقافة العربية الإسلامية، والتي تحتاج لباحثين يمكن أن يستخرجوا ما في تلك المدونات التراثية من عجائب وغرائب، يتم تصنيفها وتداولها، والتي لا تقف وظيفتها في الجماليات الفنية والمتعة الأدبية فقط، بقدر ما تساعد، وهذا هو المهم، في فهم العقلية العربية المحبة للعجائب ونفسية الإنسان العربي التي تعايشت مع الوحي وخلقت ألفة مع الغيب وما وراء الطبيعة، فكانت للإنسان العربي رؤية خاصة نحو الكون والوجود والأشياء..
إذا كان أدب العجيب يندرج ضمن حقل الآداب والعلوم الإنسانية، فإنه يتجاوز مجال الأدب والنقد إلى الفكر والسلوك، ولا يمكن فهمه إلا على ضوء المقارنات العابرة بين عجيب الثقافات المختلفة، وهو ما حاولتُ تدشينه في كتابي: أدب العجيب في الثقافتين العربية والغربية، في محاولة لتأصيل أدب العجيب وخاصة في الثقافة العربية الإسلامية، مع الاستفادة من معارف الآخر البعيد عنا ثقافيا وعلميا والقريب منا جغرافيا في سياق التقارب الإنساني المشترك والاندماج الحضاري المأمول، وخاصة مع تطور تقنيات التواصل والاتصال، استجابة للحاجة الفكرية والمجتمعية لوضعنا العربي الراهن، في ضرورة تجديد الفكر وتحفيز الإبداع وزرع قيم العمل والإنتاج.. وروح النقد وإعمال العقل والمنطق.
هكذا حاولتُ رصد تجليات العجيب في الثقافة العربية الإسلامية سواء في التراث العربي القديم أو الحديث والمعاصر، من أجل الوقوف على دلالات العجيب في الأدب العربي، وأيضاً تتبع هجرته من التراث العربي إلى ثقافة الآخر، مثل انتقال حكايات ألف ليلة وليلة من مجال التداول العربي إلى مجال الثقافة الغربية من خلال الترجمة، على الرغم من أن لكل ثقافة عجائبها الخاصة، ولذلك لا يمكن القبول بفكرة أنَّ أدب العجيب أو الفانتاستيك مصدره الغرب وأنه ظاهرة وافدة على الإبداع العربي في سياق التجريب، وإنما العجيب متأصل في الثقافة العربية الإسلامية وله خصوصياته وروافده ووظائفه التي تختلف عما هو موجود في الثقافة الغربية.
وهكذا، حاولنا الإسهام في تنوير النقد الثقافي المعاصر ولفت انتباه النقاد والمبدعين العرب إلى ضرورة الاستعانة بالتراث العربي الإسلامي في معالجة ظواهر تبدو مستجدة أو وافدة من الثقافات الأخرى وهي في واقع الأمر موجودة في تراثنا العربي وأصيلة فيه، فقط تحتاج إلى من ينفض عنها غبار النسيان ويعيد إبرازها للعيان، مع ما يترتب عن هذا المنهج من إحياء للثقة بالنفس وتعزيز للقدرات العربية وإيمان بالمحلي قبل العالمي وإعادة الاعتبار لجزء من الثقافة العربية الإسلامية كثيرا ما تم إهماله وتهميشه.
ويرى بعض النقاد أنَّ كتاب أدب العجيب في الثقافتين العربية والغربية، من بين أبرز الدراسات في الوطن العربي التي قاربت موضوع “العجيب” بنظرة شمولية معمقة تبحث في المفهوم داخل الثقافة العربية القديمة وتنبش في التراث الغربي كذلك بغية المقارنة وإبراز الخصوصيات داخل نوع من التكامل والانفتاح المفضي إلى نتائج مهمة تجعل من النص العربي العجيب نصا متفردا بسمات موضوعية وفنية لا يجوز إسقاط تمثلات الآخر الغربي عليه، إلا إذا كان المراد هو تطوير أدوات التحليل في أفق تكييف المنهج الغربي وتحويل النظرية الغربية لتناسب النص العربي، أو أن يتم استنباط المنهج انطلاقا من النص وهو التوجه الذي أميل إليه وأتبناه وقد دافعت عنه في الكتاب.
إن أدب العجيب باعتباره حصيلة أدبية وفكرية وثقافية، يمثل نشاط البنية الذهنية الشعورية واللاشعورية في ارتباط بالظواهر الاجتماعية، ليس حكرا على ثقافة دون أخرى، فهو وإن حضر في الغرب باسم “الفانتاستيك”، فهو عند العرب “عجيب” قديم ومتأصل ومتجدد باستمرار في بنية التفكير العربي”. ليؤسس بهذه النتيجة بعدا عالميا للعجيب ونمطا إبداعيا لا تخلو منه ثقافة من الثقافات، ينبغي أن يُعامل انطلاقا من الثقافة المحلية بعيدا عن أي إسقاط خارجي عنها.