بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
النظام السياسي الأميركي هو نظام رئاسي يتم فيه انتخاب الرئيس من الشعب لمدة أربع سنوات وفق آلية يحددها الدستور، ويسيطر على الحياة السياسية حزبان هما الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري، ويرشح كل من هذين الحزبين ممثله للإنتخابات الرئاسية بعد إجراء عملية تصفية داخلية بين جميع مرشحي الحزب عبر انتخاب تمهيدي داخل كل حزب بحيث أن الفائز في هذه الإنتخابات التمهيدية يكون مرشح الحزب للإنتخابات العامة في مقابل مرشح الحزب الآخر، علما أنه في بعض الأحيان يترشح ايضا أحد المستقلين أي مرشح لا ينتمي الى أي من الحزبين.
في مطلع القرن الجاري، كانت نسبة المنتمين الى كل من الحزبين تبلغ حوالى 35% من مجموع الناخبين والباقي أي حوالى 30% يعتبرون من المستقلين. تجدر الإشارة هنا الى أن المواطن الأميركي، عند بلوغه الثامنة عشرة من العمر وهو السن الأدنى للتصويت، عليه أن يسجل رسميا لدى الدوائر الحكومية انتماءه الى أحد الحزبين أو كونه مستقلا. ومن يحصل على الجنسية الأميركية عليه أيضا أن يسجل انتماءه.
أما السلطة التشريعية، فيمارسها الكونغرس بمجلسيه، مجلس النواب الذي يضم 435 عضوا من الولايات الخمسين وكل ولاية يمثلها عدد من النواب حسب عدد سكانها، ومجلس الشيوخ الذي يضم 100 عضو إذ كل ولاية تنتخب عضوين لتمثيلها في مجلس الشيوخ بصرف النظر عن عدد سكانها لتجنب سيطرة الولايات ذات الكثافة السكانية الكبرى على الولايات الأخرى. تجري الإنتخابات التشريعية مرة كل سنتين لانتخاب جميع أعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ بحيث يخدم كل عضو في هذا الأخير مدة ست سنوات على الأقل بينما عضو مجلس النواب يخدم مدة سنتين فقط إلا إذا أعيد انتخابه.
الإنتخابات التشريعية تتزامن مع الإنتخابات الرئاسية كل أربع سنوات وتحصل أيضا في منتصف الولاية الرئاسية فتعرف عندئذ بالإنتخابات النصفية. غالبا ما يخسر حزب رئيس الدولة الإنتخابات النصفية إذ يكسب الحزب المعارض الأغلبية في مجلسي الكونغرس إلا في حالات استثنائية مثلما حصل مع الرئيس بايدن في انتخابات عام 2022 النصفية حيث تمكن الحزب الديمقراطي من الإحتفاظ بالأكثرية في مجلس الشيوخ بينما فاز الحزب الجمهوري بأكثرية، وإن ضئيلة، في مجلس النواب.
في الحالات التي تكون فيها الأكثرية في الكونغرس من الحزب المعارض للرئيس، تتكاثر الألاعيب السياسية من أجل إحراج الرئيس وإظهاره مع حزبه بمظهر الضعيف الذي يصعب عليه إدارة شؤون البلاد، وذلك في سبيل تضخيم هذه الأمور في الحملة الإنتخابية اللاحقة سعيا الى الفوز فيها على حساب الرئيس وحزبه.
هذه الألاعيب السياسية تتجسد بتحركات لا تشكل بالضرورة خرقا للقانون والدستور، ولكنها في كثير من الأحيان تكون بعيدة كل البعد عن المصلحة الوطنية، نذكر فيما يلي باختصار كلي بعضا منها:
تخصيص الإعتمادات في موازنة الدولة: يتم التفاوض على مشروع الموازنة أولا في مجلس النواب بين الحزبين عبر اللجان النيابية المختصة وفيما بعد يتم إقراره من قبل المجلس بالأكثرية المطلقة تمهيدا لإرساله الى مجلس الشيوخ الذي يقوم بالتفاوض فيما بين أعضائه من الحزبين على مختلف البنود، وبعد إقراره من قبل مجلسي الكونغرس يرسل الى البيت الأبيض لموافقة الرئيس.
عندما يكون الحزب المعارض للرئيس يملك الأكثرية في أي من المجلسين، فهو يحاول فرض أولوياته وشروطه السياسية قبل الموافقة على مشروع الموازنة وذلك عبر طلب إدخال أمور تهمه وتهم ناخبيه مثل إقرار إعفاءات ضريبية لفئة معينة من المكلفين الذين يساهمون في حملته الإنتخابية، أو تمويل مشاريع معينة في مناطق يسيطر عليها الحزب انتخابيا، أو رفض بعض المشاريع التي يمكن أن تكون مفيدة لمؤيدي الرئيس وحزبه. من المعتاد أيضا أن يتقدم أعضاء الحزب المعارض بطلبات لمواقف سياسية غير مالية ليوافق على إقرار الموازنة مثل أمور تتعلق بالهجرة أو حتى بالسياسة الخارجية، وذلك عبر الإعتبار بأن هذه الأمور لها تأثير على مالية الدولة.
السنة المالية في الولايات المتحدة تبدأ في الأول من شهر أوكتوبر وتنتهي في الثلاثين من سبتمبر, وعندما تنتهي السنة المالية دون إصدار موازنة العام التالي مثلما قد يحصل هذه السنة على ما يبدو، يعمل أعضاء الكونغرس على إصدار ما يعرف ب “قرار دائم” لبضعة أسابيع لتمكين الحكومة من الإستمرار في الإنفاق بصورة عادية، وفي هذه الحالات أيضا، يقوم في كثير من الأحيان الحزب المعارض للرئيس بالتقدم بطلبات تؤمن له بعض الإنتصارات السياسية يوظفها لاحقا في حملاته الإنتخابية، وفي حال عدم التوصل الى إصدار “قرار دائم” فإن ذلك يؤدي الى ما يعرف ب “إقفال الحكومة” لعدم تمكنها من دفع رواتب الموظفين والقوات العسكرية والأمنية وتتوقف معظم أعمال الحكومة باستثناء الأعمال الأساسية والأمنية. وقد حصل مثل هذا الإقفال مرات عديدة في العقود الخمسة الماضية وآخرها كان أيام الرئيس السابق دونالد ترامب عندما كان الديمقراطيون في الكونغرس يرفضون تمويل مشروع ترامب لبناء الجدار الفاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك.
في نهاية هذا الشهر وفي حال فشل الكونغرس في إصدار “قرار دائم”، ستقفل الحكومة أعمالها وسينعكس ذلك سلبا ليس فقط على الرئيس بايدن إذ أنه سيتهم بعدم تمكنه من حل مشكلة تمويل الدولة، ولكن أيضا على الحزب الجمهوري الذي سيكون السبب وراء هذا الإقفال، وسنرى كلا من الحزبين يوجه الإتهامات الى الآخر حول إيصال البلد الى هذا الوضع غير المقبول. وهذه هي إحدى الألاعيب السياسية التي يجيد أعضاء الكونغرس القيام بها.
الموافقة على تعيين كبار الموظفين: يقضي الدستور بأن الرئيس يعين الوزراء وكبار الموظفين وقضاة المحكمة العليا والسفراء. هذه التعيينات تقتضي موافقة مجلس الشيوخ عليها. معظم هذه التعيينات تحصل على موافقة مجلس الشيوخ بصورة روتينية ولكن، في بعض الأحيان، عندما يكون الحزب المعارض للرئيس يملك الأكثرية، فهو يؤخر عرض بعض الأسماء في مراكز حساسة من الدولة على اللجنة المختصة أو يرفض الموافقة عليها لعرقلة تنفيذ سياسة الرئيس، وهذه أيضا من الألاعيب السياسية التي يمارسها ممثلو الشعب بجدارة حتى وإن كان ذلك على حساب المصلحة الوطنية.
محاكمة الرئيس في سبيل عزله من قبل الكونغرس: يمكن للكونغرس أن يحاكم الرئيس بتهم خرق الدستور أو الرشوة أو غير ذلك تمهيدا لعزله، ولكن هذه محاكمة سياسية بحتة وليست قضائية، وفي هذه الحال يقوم مجلس النواب باتخاذ قرار محاكمة الرئيس بالأكثرية العادية ويلعب عندئذ دور المدعي العام بحيث يوجه التهم الى الرئيس ومن ثم يحال القرار الى مجلس الشيوخ الذي يناقش التهم. ومن أجل عزل الرئيس، ينبغي موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ. في الماضي غير البعيد، تمت محاكمة الرئيس بيل كلنتون وكذلك الرئيس ترامب مرتين ولم يتم في أي من هذه المحاكمات الحصول على ثلثي الأعضاء لعزل الرئيس. وبما أن الديمقراطيين حاكموا الرئيس ترامب أثناء رئاسته، فإن الجمهوريين يحاولون الآن الحصول على أكثرية في مجلس النواب من أجل محاكمة الرئيس بايدن عبر اختلاق تهم فساد، علما أنه لا يوجد أدلة لذلك، كما أن عددا من النواب الجمهوريين لا يؤيدون مثل هذه الخطوة لخشيتهم أن تنعكس عليهم سلبا في الإنتخابات القادمة إذ من الواضح أنها خطوة في إطار الكيدية السياسية والجميع يعلم أن هذه التهم والمحاكمة لن تؤدي بأي شكل من الأشكال الى عزل بايدن عن الرئاسة بسبب استحالة تأمين ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ الذي يسيطر على الأكثرية فيه الحزب الديمقراطي، ولكنها بالواقع تدخل في إطار الألاعيب السياسية.
تشكيل لجان نيابية لإجراء تحقيقات مع بعض كبار الموظفين: يحق لمجلس النواب التحقيق في سلوك وزراء وموظفين كبار يتم توجيه تهم مختلفة اليهم، وهذا ما حصل مؤخرا عندما قامت اللجنة القضائية في مجلس النواب باستدعاء وزير العدل ميريك غارلند للتحقيق معه بتهمة تسييس وزارة العدل لحماية نجل الرئيس بايدن من تهم حيازة أسلحة بصورة غير قانونية وتهرب من دفع الضرائب، كما تم انتقاد غارلند لاعتباره يقوم بحماية الرئيس من تهم فساد لها علاقة بنجله. هذه الإتهامات الموجهة لوزير العدل لم تكن مستندة الى أية وقائع ولا يوجد أدلة لها، ولكنها أيضا تدخل في إطار الألاعيب السياسية العديدة التي لم نذكر الا بعضا منها.
تجدر الإشارة هنا الى أنه في الماضي القريب، غالبا ما كان يحصل تعاون وتوافق بين الحزبين في الكونغرس للوصول الى حلول للمشكلات القائمة ومشاريع القوانين المطروحة، ولكن منذ تولي ترامب الرئاسة، وكون عشرات الملايين من الناخبين يؤيدونه بصورة شبه عمياء، أصبح عدد كبير من الجمهوريين في الكونغرس يسيرون في ركابه كي لا يحاربهم في الإنتخابات مثلما فعل مع بعض زملائهم الئين عارضوا مواقفه الأنانية وخاصة في ما يتعلق بنتائج الإنتخابات الرئاسية لعام 2020 التي ما زال رافضا لنتائجها، وخسروا بعد ذلك معاركهم الإنتخابية بسببه.
الرئيس ترامب الأن، بالرغم من المحاكمات القضائية الأربع التي يتعرض لها، هو مرشح للرئاسة وقد أعرب في مناسبات عديدة عن تصميمه، في حال فوزه، على الإنتقام من الرئيس بايدن ومحاكمته، وكل ذلك يدخل طبعا في إطار الألاعيب السياسية التي أصبحت من التقاليد الحديثة، ونتيجة لهذه الممارسات السياسية التي لا تأخذ مصلحة المواطن بالإعتبار، بدأت تهبط نسبة المنتمين الى كل من الحزبين إذ أنها الآن لا تزيد عن 25% من الناخبين بعد أن كانت 35% منذ ما لا يزيد عن عقدين من الزمن، كما أصبحت نسبة المستقلين عن الحزبين حوالى 50% من الناخبين وهذا أمر يعكس انزعاج الناخبين الأميركيين من ممارسات السياسيين الذين يمثلونهم.