بقلم: د. خالد التوزاني
ما فتئ جلالة الملك محمد السادس –نصره الله وأيده- يسعى لتعزيز الأخوة الدينية وتقوية أواصر العقيدة الإسلامية المشتركة التي تجمع بلادنا المغرب مع شعوب إفريقيا، من خلال عدد من المبادرات الملكية، منها زياراته الميدانية لهذه الدول، و استقبال جلالته لشيوخ الطرق الصوفية، وبناء المساجد وتوزيع المصاحف، واحتضان الطلاب الأفارقة للدراسة في الجامعات والمعاهد المغربية، إضافة إلى إنشاء مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، ومركز تكوين الأئمة والمرشدين، تلبية للحاجة المتزايدة للدول الإفريقية في المجال الديني، كل ذلك له دلالة خاصة تعكس عمق الصلات الروحية التي تجمع مؤسسة إمارة المؤمنين في المغرب بعدد من دول إفريقيا.
إنَّ استحضار الأبعاد الروحية في الدبلوماسية المغربية الإفريقية، يتجاوز رصد المشترك الثقافي، إلى محاولة الكشف عن قوة العلاقات التي جمعت المغرب مع دول إفريقيا عبر التاريخ، وكيف ظل تأثير هذه العلاقات متواصلاً على أكثر من صعيد ومجال، على الرغم من التنوع الثقافي والتباين الاجتماعي والتفاوت الاقتصادي الذي تعرفه هذه الدول، فقد استطاع هذا النمط من الدبلوماسية “الروحية” الارتقاء بمستوى العلاقات، انطلاقاً من رؤيةٍ تؤسِّسُ للامتداد الرُّوحي في العطاء والبرّ والتعاون، ليس بمنطق “رابح رابح” كما هو شائع ومتداول في مجال الدبلوماسية الرسمية، فذلك منطق يقوم على تبادل المصالح والمنافع، أي وفق قاعدة : “هذه بتلك”، ويبدو أنَّ فيها نوعاً من الإلزام بردّ الجميل. ولكن البعد الروحي في الدبلوماسية له منطق اشتغال مخالف للمألوف؛ إذ يركّز على أن يستفيد الآخر أوّلاً، وإن لم يستفد المُبادِر إلى التواصل ومدّ يد التعاون؛ أي العمل وفق منطق جديد يكون فيه الآخر هو المستفيد، أي: “رابح مرتين”؛ المرة الأولى دون إحراجه بأن يطلب المساعدة، وإنما يكون الجود في التعامل وفق ما يظهر عنده من نقصٍ وحاجة، والمرة الثانية دون إحراجه برد الجميل أو تقديم كلمات شكر، أي مساندة الآخر ودعمه وفق قاعدة: “لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً”، والمبادر بالخير رابح فيما بعد، أو يؤجّل النفع إلى ما بعد الموت، وهذا يعني أنَّ التواصل الروحي يتأسس على عقيدةٍ ترى في الإحسان إلى المخلوقات نوعاً من أداء الواجب الإنساني تجاه العالم والكون، ثم نوعاً من الاستثمار في بناء حياة أخرى تأتي بعد الممات، استجابةً لعدد من الآيات والنصوص المقدسة في كتب الأديان السماوية، وعلى رأسها القرآن الكريم.
إن الدبلوماسية الروحية لا تُوجّهها بالضرورة المصلحة المادية المباشرة أو الآنية المرتبطة بالعصر أو الحياة على الأرض، وإنما لهذه الدبلوماسية امتدادات في الوجود وفي الحياة الأخرى المستقبلية: حياة الأجيال القادمة، أو الحياة بعد الموت، وبهذا المعنى فإنَّ الأبعاد الروحية عابرة للأزمنة، وتتجاوز حدود الواقع، وتتعالى على المنافع المادية، لأن غايتها أكبر وأسمى، وهذا سرّ نجاحها وقدرتها على التأثير بشكل خفي، أي أنها بلغة أخرى: “قوة ناعمة” تملك من الفعالية ما لا تملكه أعتى الأسلحة.
ومن أجل فهم الأبعاد الروحية في الدبلوماسية المغربية الإفريقية، من زاوية تطبيقية، نستحضر مبادرة جلالة الملك أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله، والمتمثلة في إرسال هبة عبارة عن آلاف النسخ من المصحف المحمدي الشريف إلى دولة الغابون خلال شهر رمضان المبارك 1445هـ/2024:
وضمن هذا السياق يأتي اليوم تقديم المغرب لهبة عبارة عن نسخ من المصحف المحمدي الشريف لفائدة مسجد الحسن الثاني في ليبروفيل، تزامناً مع ذكرى وفاة محرر المغرب جلالة الملك محمد الخامس قدس الله سره، وللتعبير عن وفاء الخلف للسلف، واستمرار الدعم المغربي لدول إفريقيا منذ عقود طويلة؛ في بناء المساجد وشق الطرق وبناء الجسور والمؤسسات الخيرية وتمويل المشاريع الاجتماعية في عدد من هذه الدولة وعلى رأسها الغابون.
وقد تم تسليم هذه الهبة الشريفة من قبل السفير المغربي بالغابون معالي الأستاذ عبد الله الصبيحي، وذلك بمناسبة تخليد ذكرى وفاة جلالة الملك محمد الخامس، طيب الله ثراه، والتي تتزامن مع العاشر من رمضان المبارك لهذا العام.
ويمثل المصحف الشريف رمزاً دينيا يعبر عن الإسلام في مصدره الأول، وإن توفيره في مسجد الحسن الثاني بالغابون، له عدة دلالات أولها تقوية الدبلوماسية الروحية وضمان الأمن الروحي في هذا البلد الإفريقي، خاصة وأن المغرب بعدما نجح في تحصين التراب الوطني من تيارات التطرف ومن تهديد المذاهب التي لا تنسجم مع اختيارات المغرب الدينية والعقدية، تطلع إلى إشاعة الأمن الروحي في إفريقيا من خلال تقديم الدعم المادي والمعنوي لهذه الدول، وخاصة ما له صلة بتكوين العلماء ونشر العلوم الشرعية وترسيخ منهج الوسطية والاعتدال..
والمغرب بهذه المبادرة وفي هذا الشهر الكريم يقدم درساً في نشر المحبة والخير، ومد جسور الإخاء والتعاون في المجال الروحي، يُجَسِّدُ حقيقة التدين السليم، الذي يحرك الإنسان في دائرة التعاون المشترك والعطاء المستمر ويحقق للوطن وحدته وعزّته وينشر السّلام في أرجاء إفريقيا والعالم، فالمصحف الشريف ترافقه أحياناً نهضة في العلوم الشرعية، مع ما يترتب عنها من حاجة للعلماء وهذا ينعكس على حفظ ثوابت الأمة المتمثلة في العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي وتصوف الإمام الجنيد ثم مؤسسة إمارة المؤمنين باعتبارها صمام أمان وحصن منيع ضد كل التيارات الدخيلة التي تستهدف التشكيك في هذه الثوابت الأصيلة أو تزرع الشك أو اليأس في نفوس الشباب الإفريقي، ويتعلق الأمر بكثير من التنظيمات الإرهابية أو المذهبية أو العقدية، ومنها التشدد الديني أو التطرف العنيف، ومنها الإلحاد الجديد أو الانحلال والتحرر الكامل من كل القيود والأخلاق، ومنها التشيع الإيراني الذي يزداد طموحه في الانتشار داخل ربوع إفريقيا بعدما فشل في دخول المغرب، ولكن مع اليقظة المغربية وخاصة مبادرات أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس فإن هذه التيارات لن تجد لها مكانا في إفريقيا، بفضل العناية المولوية السامية لجلالة الملك في حفظ ثوابت الأمة ورعاية مصالحها، بشكل مؤسساتي من خلال فروع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، أو من خلال مبادرات جلالة الملك الشخصية ومنها اليوم هذه المنحة المكونة من نسخ المصحف الشريف الموجهة لمسجد الحسن الثاني في ليبروفيل، والتي سيكون لها عميق الأثر في نفس شعب الغابون الذي يعبر دائما عن محبة حقيقية يكنها للمغرب ملكاً وشعباً. وقد نجح المغرب بفضل هذه الدبلوماسية الملكية الرشيدة وهذه القوة الدينية الناعمة من أن يحقق مكانة عالية في نفوس الأفارقة ويظهر ذلك جلياً في زيارات جلالة الملك لدول إفريقيا كيف يستقبلونه بحفاوة كبيرة ويرونه أميراً لكل المؤمنين عبر العالم، وليس أميراً للمغاربة فحسب، وهذا الإجماع الإفريقي على جلالته راجع لما تتسم به شخصيته من روح المحبة وصدق الأخوة ومن نبل وكرم وتعاون وإحساس بأن إفريقيا وطن الأفارقة جميعاً فالحدود إنما هي نسبية ووهمية، والواقع أن جميع الشعوب الإفريقية هي كتلة واحدة، فكانت رؤية جلالة الملك موحدة لإفريقيا مدافعة عن قضاياها.
لقد كان للنموذج الديني المغربي تأثير واضح في البلدان الإفريقية، ومما يؤكد ذلك أن المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية وتصوف الإمام الجنيد هي مرجعيات السلوك الديني في هذه الدول الإفريقية، إنه التواصل الروحي والعلمي بين المغرب وشعوب إفريقيا، وهو تواصلٌ له جذور تاريخية عميقة ترجع لقرون ماضية، وزادت وَهَجاً وتألقاً وقوةً مع مبادرات أمير المؤمنين الملك محمد السادس نصره الله وأيده والذي ما فتئ – جلالته- يولي عنايته الكريمة بالدول الإفريقية ويسبغ عليها من حنانه وعطائه واهتمامه ما يُعِين هذه البلدان على تحقيق إقلاع روحي و تنموي وحضاري، ويحصنها من التطرف والعنف والإرهاب ومن التيارات الدخيلة، ولا شك أن الرعاية الروحية لجلالته لهذه الشعوب الإفريقية الشقيقة للمغرب، تتواصل في هذا الشهر المبارك بإرسال نسخ من المصحف الشريف إلى مسجد الحسن الثاني في ليبروفيل، بما يحقق المزيد من أواصر الأخوة الدينية وينمّي العلاقات الإنسانية في أبعادها الروحية السامية وفي الوقت نفسه يرسخ المزيد من الأمن الروحي وتجديد الصلة بجلالة الملك، في إشارة إلى استمرار العهد من الحسن الثاني إلى محمد السادس، عطاء موصول وإخاء ممتد.