بقلم: بشــير القــزّي
وأنا في صدد البدء بالكتابة عن أخي صلاح وكيفيّة تعامله مع الأطفال، عادت بي الذكريات إلى أيّام خلت ومنها تلك التي عشتها خلال طفولتي…
جدران غرفة النوم التي أوتني مع أخويّ في بيروت خلال طفولتنا كانت مطليّة بلون أزرق سماوي وتُشرف على غرب بيروت من خلال شبّاك وباب خشبيّين. أما الأخير فكان يفتح مصراعيه الخارجيّين اللذين يحجبان النور نحو شرفة تطل على الشارع ومنظر أفق بعيد تعكّر استواءه أبنية لا متناهية بالعدد تقطع روتينيّتها بعض مآذن جوامع تدغدغ أصوات دعواتها للصلوات، في أوقاتها، آذان سكّان الأحياء التي تحيط بها!
لدى ولادتي جهّز والداي الغرفة بمجموعة متناسقة من المفروشات الخشبيّة الخاصة بطفل، فضمّت سريراً بإمكانه استيعاب الولد لعدة سنوات من العمر ومنضدة لجانب السرير ومكتبة للحائط مؤلفة من رفّين وخزانة ألبسة مقسّمة الى قسمين يحوي القسم الأيسر منها أدراجاً ودرفة عليا بينما بقي القسم الأيمن للألبسة الطويلة. أمّا الوجه الخشبي للمفروشات فكان مالساً مطلياً بلون أزرق سماوي وقد رُسمت على واجهة السرير وجوانب الخزانة صور ملوّنة لأولادٍ يلعبون وذلك في زمن لم تكن قد انتشرت فيه رسومات “ديزني” الشهيرة! ومع ولادة أخي صلاح انتقلتُ الى النوم على سرير حديدي أزرق تمّ وضعه على الناحية المقابلة للسرير الصغير. وكان سرير حديدي من نوع “صوفا” يحتل جانب الحائط الموازي لباب الغرفة وقد انتقل صلاح للنوم عليه بعد أكثر من سبع سنوات، وذلك لدى ولادة أخي الأصغر، حميد. أما الحائط الموازي للسرير فقد ملأه صلاح بخربشات بقلم الرصاص، وقد أكون قد ساعدته بذلك!
كان والدايَ يحبّان أخذ قهوة الصباح، كلٌّ في سريره في غرفة نومهما. كانت منضدة بلون خشبي تفصل بين السريرين الواسعين، وكانت توضع عليها صينيّة نحاسيّة تحوي ركوة القهوة وفنجانين. أما في نهاية الأسبوع فكنت أحب مع أخي صلاح أخذ الصبحيّة مع الوالدين. فكنّا نغزّ بجانبهما في السريرين وكانا يسمحان لنا بمشاركتهما في القهوة، فيتم سكب نصف فنجان قهوة لكلّ منّا تضاف اليه مياه ساخنة وسكّر ويسميانها: “قهوة شباب”.
بعد سنوات من العيش منفرداً في المزرعة ذهب صلاح برفقة والديّ لمراجعة اختصاصي في أمور الأنف والحنجرة في مستشفى رزق. حكم الطبيب، وكان اسمه الدكتور باز، بأن صلاح يعاني من التهاب في الجيوب الأنفيّة وذلك الى جانب انحراف في الأنف. نصح بإجراء عملية جراحية واقترح أن يقوم بتجميل شكل الأنف في نفس الوقت، بينما كان هو يحمل أنفاً يذكّر بذاك الذي كان يحمله نجيب حنكش!
دخل صلاح المستشفى، وتم إجراء عمليّة له دامت ساعات وقد عانى الأمرّين من آلامها وذيولها، وقد لزم العناية لمدة أسابيع! كان رأسه مضمّداً بأكمله بشكل يخفي معالمه! وإذ كان لا يحسن الكلام بسهولة، إلّا أنه لم يمتنع عن التنكيت لإضحاك من كان يقوم بزيارته!
وإذ كان يحتلّ غرفة مستقلّة، كانت فتاة جميلة تمضي مجمل نهارها بجانبه. أذكر قوامها الرشيق وبشرتها الناصعة البياض وعينيها العسليتين الكبيرتين وشعرها الكستنائي القصير وشفتيها الناعمتين. كانت تزور المستشفى يومياً لزيارة والدها الذي يعاني من مرض عضال…
كانت لا تحب الاختلاط بالزوّار فتنسحب ما أن يكثر عددهم لأنها تريد أن تخفي المشكلة التي تعاني منها، وهي، ما ان يثيرُ حديثُ صلاح الضحك، حتى، بدل أن ترسم ابتسامة على شفتيها، كانت تنكمش معالم وجهها بشكل يدلّ على الألم والبكاء! يبدو أنها تعرضت قبل سنوات لحادثة سير مروعة ولدى إجراء عمليّة تضميد الجراح حصل خطأ في وصل الأعصاب العائدة لتلك الحركة!
وفي عودة الى صلاح والأطفال كان في عزلته في المزرعة يواظب على زيارة الأقارب من وقت الى آخر. إلّا اني فوجئت مرات متعددة عندما كنت أرافقه، بأن الأطفال يتراكضون للقياه بشكل يفوق ما نراه لدى وصول بائع النمّورة أو السمسمية!
فهو لديه مقدرة كبيرة على مخاطبة الأولاد، كلّاً حسب عمره، وبلهجة ولكنة يفهمونها. مع أنه نطق بالنحويّة منذ نعومة أظافره، إلّا أنه لا يستهضم طفلاً يتكلّم كالكبار. يقول إن الطفل يجب أن يعيش عمره ومن المفضّل ان يسيء لفظ الكلمات ويخطئ بلفظ الأحرف. فيقول للطفل : “أنت محتول!” بدل محتال وغير ذلك من الأمثلة!
كان يجد دائمًا ما يسلّيهم، ويلاعبهم بحركات وألعاب من تأليفه ويقصّ عليهم أخبارا لا يجدونها في الروايات الخاصة بهم!
أما للبعض الآخر فكان يلعب دور الحكواتي حيث يبدأ الحكاية في اليوم الأول وينهي ما رواه بموقف حرج أو مشوّق ليكمل ما رواه في اليوم الثاني وينهي اليوم الثاني بموقف آخر وهكذا دواليك! وقد روت لي ريتا، وهي بنت ابنة عمي، ما حصل معها ومع أخيها عندما كانا يتعلّمان في مدرسة الشويفات. كان يرافق خالها كلّ يوم لإيصال الطفلين إلى المدرسة. وبدأ القصة في اليوم الأول للدراسة وواظب على الرواية كلّ يوم ولم ينتهِ من قصّها إلّا في آخر يوم من السنة الدراسيّة!