بقلم: بشــير القــزّي
احتدم النقاش يوماً بين فريقين من المنتدى حول الطريقة الأفضل لتعليم اللغة العربية: فريق يدعو الى تلقين القواعد قبل كلّ شيء وآخر يدعو الى كثرة المطالعة والتعلّم عبر السليقة! وتذكّرت ذاك التساؤل القديم حول من وُجد في البدء: البيضة أم الدجاجة؟
وعادت بي الذكريات الى طفولة أخي صلاح الذي يصغرني بثلاث سنوات وبضعة أشهر والذي يصادف عيد ميلاده الأسبوع القادم ! كان يختلف عنّي بشعره الأشقر الذي يحمل بعض الثنايا وسحنته الناصعة البياض وعينيه الخضراوين. تميّز بطلاقة لسانه منذ سنته الأولى وأذكر أوّل ما نطقه وهو يتوجّه الى امرأة عمّه ناجي: “ماري! “بوتي” أحمر!” وذلك مشيراً الى حذائه…
سافر والدي الى باريس مبعوثاً من قبل وزارة المالية وذلك لفترة ستة أشهر وذلك من أجل التعمّق في شؤون الضرائب الغير مباشرة. وإذ كان التواصل الهاتفي صعباً في تلك الأيام، ثابر الوالد على كتابة رسالة كلّ يوم، كانت والدتي تقرأها علينا لدى وصولها، وذلك بالتأكيد بعد أسابيع من إرسالها! وكانت كتاباته بأسلوب أدبي مميّز!
قبل أسبوعين من عيد الميلاد، أرسل لنا بالبريد بطاقة معايدة مختلفة عما تعوّدنا على رؤيته. مربّعة الشكل، تحوي تسجيلاً صوتياً للوالد باللغة النحويّة يمكن سماعه بواسطة الماكينة الخاصة بالأسطوانات ! أذكر منه البداية: من على ضفاف نهر السين…
أعدنا سماع التسجيل عدة مرات وبالأخص لدى زيارة الأقارب لمعايدتنا إلا أننا فوجئنا بأن صلاح حفظ النص بالكامل وبدأ يردده عن ظهر قلب وبإلقاء جيد وهو لم يتجاوز بعد السنة والنصف من العمر!
كنا في تلك الأيام ننصت كثيراً للراديو الذي كان يتطلّب حوالي الدقيقتين من الزمن مذ تشغيله وحتى صدور الصوت! وكان المذيعون قلّما يُخطئون في قراءاتهم لنشرة الأخبار وكان أخي يُنصت الى تلك النشرات بانتظام!
أذكر أول يوم ذهب فيه الى المدرسة ،وكان في الرابعة من العمر، وقد مرّ الأوتوكار (الباص الخاص بالمدرسة) أمام مدخل البناية لنقله الى مدرسة اللّيسيه الفرنسي. بكى كثيراً قبل صعوده الى الباص! في آخر النهار وعند رجوعه الى البيت قال: “خلصت المدرسة وطلعت الأوّل!
بعد مرور شهرين أو اكثر منذ بدء العام الدراسي وفي حدود فرصة عيد الميلاد، رنّ جرس الباب. فتحتُ الطاقة الزجاجيّة من أعلى الباب لأعرف من الطارق! وجدت فقيراً تراءى لىي من وراء القضبان الحديدية الموجدة وراء الدرفة! كان يتسوّل. ذهبت لإخبار والدتي وكانت تأخذ قيلولة بعد الظهر! كان صلاح بجانبي. أخبرتها أن الشحّاذ على الباب وهو يستجدي! قالت: “أعطه رغيف خبز. أودّ أن أنام!” ذهبتُ لإعطائه رغيف الخبز، إلا أن ذلك لم يعجب صلاحاً!
وإذ كان لم يتعلّم بعد في المدرسة “التمييز بين الألف والعصا” طلب مني أن أشغّل له ماكينة التسجيل الصوتي وكانت من البكرات الكبيرة “ الريل”. وقف وراء المذياع وألقى كلمة بلغة الضاد النحويّة تحت عنوان: “الفقراء وعيد الميلاد”.
نسيت ما قمت بفعله، إلّا ان والدي اكتشف التسجيل بعد ذلك وأعجب كيف ان ابنه يحسن الخطابة في لغة لم يتعلّمها بعد!
وهكذا بدأت والدتي تطلب من صلاح ان يلقي “خطاباً” في كل مناسبة. كان ينزوي لبضعة دقائق في الداخل ثمّ يعود ليلقي كلمته بين الناس وهو يقف فوق طبليّة خشبيّة! وهكذا أجاد اللغة العربيّة دون ان يتعلّم قواعدها!